بقلم: فاروق عطية
النصب فن متوارث منذ قديم الأزل وليس وليد العصر الذى نعيش، فقد نقلت لنا البرديات حكاية قديمة من أيام الفراعين. حيث تعرض فلاح كان ينقل خرجا من الملح على ظهر حماره لعملية نصب فقد فيها حماره بما كان يحمله فظل هذا الفلاح الفصيح يشكو لكل من يقابله ويحكى حكايته بأسوب شعرى فصيح متدرجا من عمدة البلد ألى حاكم المقاطعة حتى وصلت شكواه إلى الفرعون نفسه الذى أطربته حكاية الفلاح الفصيح فكان يطلب إعادتها مرات ومرات, ولكنه فى النهاية لم يسترد ما فقد فالقانون منذ القدم لا يحمى المغفلين..!!
كما يحكى أن جحا ذلك الشيخ المثقف الذى تقلد الكثير من المناصب منها الإمامة والقضاء وغيرها من المناصب العليا، قام هو نفسه بعملية نصب ظريفة على جيرانه. إقترض ذات يوم طنجرة من جاره ليطبخ فيها وفى اليوم التالى أعادها له وبداخلها طنجرة صغيرة, وحين سأله الجار عن هذه الطنجرة الصغيره أخبره جحا أن طنجرته قد ولدت عنده ولذلك فقد أعادها له مع وليدها. انتشر خبر ولادة الطنجرة لدى جحا بين الجيران فأسرع الكل بإيداع ما لديهم من أوان حتى تلد فى بيت جحا. جمع جحا كل الأوانى وباعها فى السوق, وعندما سأله الجيران عن أوانيهم أخبرهم أنها قد ماتت فى الولادة, ولما تعجب الناس رافضين أن يصدقوا أن الأوانى تموت, عندإذن قال لهم إذا كانت الأوانى تلد فلماذا لا تموت..!!
بالرغم أن مصر بحضارتها الممتدة لسبعة آلاف من السنين إلا أن النصب يتم فيها من رعايا دول كانت وما زالت تعيش حياة الغاب ولم تعرف المدنية إلا من سنين مثل غانا والجابون والكاميرون, والأغرب أن المنصوب عليهم ليسوا من بسطاء الناس ولكنهم مثقفون ورجال أعمال وأطباء ومهندسون ومن ذوى الدخول المرتفعة لا أدرى كيف أصابتهم الغقلة ليقعوا فريسة سهلة قى أحابيل عمليات نصب ساذجة لا يمكن أن يصدقها طفل وليد, ولكن الملاحظ أن جميع الضحايا يمتازون بالجشع والطمع الذى يجعلهم فريسة سهلة لمثل هذه العمليات النصبية الساذجة.
لست أدرى كيف يكتشف من ينظر إلى وجهىى أننى صعيدى قُح, وكيف يخطر على باله أننى ساذج سذاجة من اشترى العتبة الخضراء الذى ربما قد يكون أحد أجدادى, أو ذلك الذى اشترى الترام وقد يكون أيضا أحد أفراد عائلتى. خطرت على بالى هذه الأفكار وأنا أتذكر ما حدث معى أثناء فترة دراستى الجامعية فى نهاية الخمسينيات. فقد كنت أسير بشارع فؤاد وتوقفت أمام محل عكاوى أتفرج على فترينة الساعات, وإذ بشاب تفوح من فمه رائحة الكحول يقف بجانبى وحدثنى قائلا: معى ساعة جوفيال ذهبية أريد بيعها, هى عزيزة على ولكننى استنفدت ما معى من نقود وما زلت فى حاجة للشراب حتى أوزن الطاسة. وأخرج من جيبه ساعة ذهبية غاية فى الجمال وهو يترنح قدمها لى, فتفحصتها جيدا وكان ثمنها لا يقل عن ثمانون جنيها. سألته بكم يريد بيعها, فأجابنى أنه اشتراها منذ أسبوع بخمسة وسبعين جنيها ولكنه لحاجته الملحة للنقود الآن يوافق على بيعها بأربعين جنيها. قلت له ليس معى غير عشرين. فانتزع الساعة من يدى ووضعها فى جيبه وأعطانى ظهره للانصراف, وفجأة توقف وقال: حلال عليك بتلاثين. ولما أفهمته أن ليس معى غير العشرين, تنهد فى أسى ووافق لحاجته الملحة للشراب, وأخرج الساعة من جيبه ملفوفة فى سوارها الجلدى وقال لى: ضعها فى جيبك بسرعة حتى لا يرانا أحد ولا تخرجها إلا بعد الابتعاد عن هذا المكان لأننى بصراحة سارقها من واحد سعودى و جايز يكون بلغ الشرطة. هنا أيقنت أنه نصاب وأنه استبدل الساعة بأخرى لا تساوى قرشا. وقبل أن أتسلمها منه وأعطيه النقود قلت له لابد من إلقاء نظرة سريعة عليها قبل إعطائك النقود. وضع يده بسرعة فى جيبه وأخرجها بالساعة الحقيقية قائلا أنظر بسرعة حتى لا يرانا أحد. أخذت منه الساعة وفى الحال صحت: بوليس .. إجرى بسرعة الشرطة تحاصر المكان. فترك الساعة وركض كأنه الريح, وركضت أنا فى الاتجاه المضاد وركبت الاتوبيس وأنا أضحك مقهقها بصوت مدوى لانتصارى على النصاب.
تذكرت أيضا ما حدث معى قبيل مجيئ إلى كندا وكنت جالسا بمقهى النشاط بشارع فؤاد اتابع مع غيرى من أرباب المعاشات حركة المارة الذين يملأون الشوارع وكأن مصر خلت من العاملين وأصبح الجميع صُيّع لا عمل لهم غير التسكع والتجوال, حيث أقبل على جلستى ثلاث رجال لا أعرفهم إثنين منهم أفارقة وثالثهم يبدو من سحنته أنه مصرى مثلنا. جلس ثلاثتهم على طاولتى والابتسامة العريضة تملأ وجوههم. بادرنى ثالثهم بالسلام والتحية وقدم لى زميليه على أنهم رجال أعمال من غانا, وأنهما توسما فى الطيبة والجدعنة ( يقصد السذاجة والغفلة), لذلك فهما يقدمان لى فرصة العمر فى الثراء السريع, فهُما متخصصان فى توليد الدولارات باستخدام الزئبق الأحمر المجلوب من مومياوت القدماء المصريين. بالطبع أيقنت انهم نصابون فرسمت على وجهى المزيد من علامات السذاجة والاندهاش, فقام أحد الافارقة بفتح حقيبته السيمسونيت وأخرج منها لوحين سوداوين وضع بينهما قطعتين من الورق وأسفلهما ورقة عملة دولارية فئة 100$ ورش عليها بخة من مسحوق أحمر واغلق عليها حقيبته قائلا سيستغرق التحول 20 دقيقة, قضيناها فى الدردشة واحتساء الشاى. بعدها فتح الحقيبة واخرج ما بين اللوحين الأسودين ورقتين من فئة 100$، تصنعت الدهشة والانبهار. طلبوا منى أن أجهز 250 ألف دولار ليضاعفونها لى مقابل 10% ثمنا للزئبق الأحمر وأنهم متنازلون عن اتعابهم هذه المرة وسيتقاضون أتعابهم فى المرة التالية. اظهرت لهم امتنانى وترحيبى وطلبت منهم مهلة 24 ساعة لتدبير المبلغ المطلوب, وحصلت منهم على عنوان مكان اللقاء. وفى الميعاد المنتظر ذهبت لهم حاملا حقيبتى المتخمة بالدولارات, وفور فتح أحدهم للحقيبة هجمت الشرطة وقبضت عليهم متلبسين بجريمة النصب الدولى. شكرت ضابط الشرطة المتعاون وانفجرت فى الضحك على سذاجة أولائك النصابين. فاستيقظت أم العربى على ضحكاتى فوضّحت لها الأمر بتآمرى للقبض على عصابة دولية للنصب على المصريين فى حلمى, فنظرت إلى مليا ثم قالت: خللى بالك فى الحلم القادم, اكيد سيتتبعك المجرمون للانتقام منك ويقتلونك وأستريح أنا من أحلامك المزعجة..!!