نحن نكذب على أنفسنا، ونسمح لحكامنا بأن يكذبوا علينا. وذلك لأن الكذب مريح. والبحث عن الحقيقة متعب. ومراجعة الإنسان لنفسه ومحاسبته لغيره تكلفه الكثير.
نحن نستغرب ما يتعرض له المسيحيون المصريون من صور القهر والتمييز والاضطهاد، كأنها جديدة علينا، ومنا من ينكرها والبعض يعكس الصورة، ويروى الحادثة بالمقلوب، ويعيد توزيع الأدوار، فيبرئ الجانى ويدين الضحية، كما فعل بعض المتحدثين باسم رئاسة الدولة، وبعض المتحدثين باسم الشرطة، وبعض المتحدثين باسمنا! فى مجلس الشورى عما وقع للمسيحيين فى مدينة «الخصوص» وأمام الكاتدرائية وفى ساحتها الحرام، فإذا كان إنكار الواقع وإخفاء الحقائق والكذب على النفس وعلى الغير قد أصبح سلوكاً عاماً نشارك فيه حكاماً ومحكومين، دون أن نتردد أو نخجل أو نعبأ بالكوارث التى يجرها علينا هذا الكذب المفضوح - لأن الصدق الآن له ألف عين وعين- أقول إذا كان الكذب قد أصبح عندنا سلوكاً عاماً وثقافة قومية فباستطاعتنا أن نفهم ما صارت إليه حياتنا العامة والخاصة من الفقر والقبح والتردى.
حين ننكر ما وقع لنا بالأمس أو ننساه، أو نقبل فيه شهادة الزور، نكرره اليوم وغداً وبعد غد كأنه فى كل مرة يقع للمرة الأولى، وهكذا نظل نقع فى الخطأ ولا نتعلم منه ولا نصل أبداً إلى الصواب.
ولقد ثرنا على الطغيان، فأثبتنا أننا لا نزال أحياء رغم ما لقيناه طوال العقود الأخيرة والقرون الماضية من قهر وذل واستعباد، لكننا اكتفينا بإسقاط ممثليه وتركنا بنيانه قائماً، ليستمر النظام ويحل الطغاة الجدد محل الذين سقطوا، اللافتة وحدها هى التى تغيرت وتغيرت معها وجوه الطغاة وأزياؤهم وأسماؤهم. كان الطغيان فى عهوده السابقة معمما، ثم صار مطربشا ثم دخل الجيش واستولى على السلطة وسمى الانقلاب ثورة، والديكتاتورية ديمقراطية، وقد خلع الكاكى الآن ولبس البدلة وأطلق لحيته، واشترى السلطة بالزيت والسكر، وصكوك يدخل بها الناخبون الجنة. وهكذا صار الطغيان ديم٢١٣٠قراطيا، وصار مقدساً، وضمن لنفسه مكاناً فى الحاضر، بعد مكانه المضمون فى الماضى! ولأن الماضى لم يكن كما يراه الطغاة المتشبثون به لأنه موطنهم الأصلى وجنتهم الضائعة، فهم يزيفون لنا صورته ويسترون عورته ويبنون وجودهم فينا على جهلنا به.
وما الذى نعرفه عن المسيحية «المصرية» وعن الإسلام المصرى، وعما كان بين المصريين المسلمين والمسيحيين من تسامح وتعصب، وعما كان بينهم وبين السلطة التى كانت دائماً سلطة أجنبية؟ نحن لا نعرف عن هذا إلا القليل الذى سمحت به هذه السلطة وروّجته ورددته هى ومن عملوا فى خدمتها من المؤرخين ورجال الدين والتعليم والثقافة والسياسة.
إنهم لم يكتفوا باستعارة الثقافة البدوية التى لا تعرف معنى الانتماء الوطنى، وتضع القبيلة فوق الأمة، والدم فوق القانون، وتجعل الدين بديلاً عن الوطن، وإنما تجاوزوا هذا إلى تجاهل التاريخ الذى سبق دخول العرب مصر وأسقطوه واستبعدوه كأنه لم يكن.
الحضارة الفرعونية التى علمت البشرية منسية، أو بالأحرى منفية ومهددة وممنوعة من أن تحتل مكانها فى ثقافتنا الحديثة، فإن كانت لها وظيفة تؤديها فهى مقصورة على جلب السياح الأجانب والحصول على عملاتهم الصعبة. أما المسيحية المصرية التى ظلت عقيدة الغالبية أكثر من ألف عام فلا ذكر لها فى البرامج الثقافية أو فى مناهج التعليم، المذهب الخاص بالكنيسة المصرية، والحوار الذى دار بينها وبين الكنائس الأخرى، والرهبنة المصرية، واللغة القبطية والفنون والتقاليد.. هذا التراث الذى ظل حياً فاعلاً حتى الآن لأنه ليس مجرد دين، وإنما هو حياة يومية وثقافة وطنية تبنتها الكنيسة التى دافعت وحدها عن استقلال مصر وعن كرامتها وثقافتها فى مواجهة الغزاة المحتلين. لقد فقدت مصر استقلالها خمسة وعشرين قرناً، كنا فيها ولاية تابعة مسخّرة لخدمة الغزاة الأجانب، ولم تكن لنا مؤسسة وطنية واحدة ترفع راية مصر وتحمل اسمها إلا كنيستنا القبطية.
ماذا لقيت هذه الكنيسة وماذا لقى أبناؤها على أيدى الغزاة الذين استولوا على بلادنا ونزحوا خيراتنا واستعبدونا باسم الإسلام والإسلام منهم براء؟
الإسلام بطبيعته دين متسامح، لأنه التجلى الأخير لعقيدة التوحيد التى جاءت بها اليهودية والمسيحية، فالعناصر المشتركة فى الديانات الثلاث كثيرة. غير أن الإسلام شىء، والذين تحدثوا بلسانه وحكموا باسمه شىء آخر. هؤلاء لم يكونوا دائماً متسامحين مع المسيحيين الذين عوملوا إلى أواسط القرن التاسع عشر كأنهم أجانب لا يساوون المسلمين ولا يتمتعون إلا بالبقاء على قيد الحياة داخل نطاق لا يتعدونه وبشروط قاسية مهينة ثاروا عليها مرات وتعرضت ثوراتهم للقمع الوحشى، خاصة على يد الخليفة المأمون الذى سمينا باسمه شارعاً من أهم شوارع القاهرة، وهو تكريم لا يستحقه منا، نحن المسلمين المصريين، فليس المسلمون المصريون إلا أحفاد المسيحيين الذين حكم المأمون على رجالهم بالموت وباع نساءهم وأطفالهم فى أسواق بغداد! وهى سياسة ظلت متبعة بعده.
وأنا هنا لا أنكأ جرحاً قديماً وإنما أحيى الذاكرة وأراجع ما ينسبه البعض للتاريخ، وأرد على الذين لا يكتفون بأن ينكأوا الجراح القديمة، بل يضيفون إليها كل يوم جرحاً جديداً ثم يزيدون فيستغربون ما حدث، وينكرون وننكر معهم، ونظل مع ذلك نهاجم الكنائس ونقتل المشيعين اليوم بعد أن قتلنا شهداءهم بالأمس، ثم نقتحم عليهم كنيستهم الكبرى، وهى كنيستنا معهم، ونقول بعد هذا كله : الفتنة نائمة! وهى دائماً يقظى، ونلقى المسؤولية على صبى عابث رسم صليباً على حائط، أو على مؤذن جاهل نادى فى الميكروفونحى على الجهاد!
لا، التاريخ كله مسؤول ونحن كلنا مسؤولون، الماضى مسؤول والحاضر مسؤول، والكذب على التاريخ وإنكار ما وقع فيه هو جريمتنا الكبرى التى نواصل ارتكابها إلى اليوم حكاماً ومحكومين. الحكام يكذبون علينا ونحن نصدقهم، ينكرون التهمة ونحن نردد ما يقولون، يتاجرون بالدين، ونحن نشترى معهم ونبيع. ونتمزق، ونتحول فى دستورهم من أمة متضامنة معتزة بنفسها إلى طوائف متناحرة يسلطون بعضها على بعض، والدولة المصرية فى هذا الدستور الملفق لم تعد دولة وطنية كما كانت، ولم تصبح دولة ديمقراطية كما كنا نريد، وإنما مسخت فصارت إمارة إخوانية غارقة فى الديون والأكاذيب.
نحن نكذب على أنفسنا، وحكامنا يكذبون علينا، لكن الكذب مفضوح مهما تستر، وعمره مهما طال قصير!
نقلا عن المصرى اليوم