بقلم: نبيل شرف الدين
كثيرًا ما باغتنى مسيحيون ربما أكثر من المسلمين بهذا السؤال، وكانت إجابتى دائمًا هى: لأنهم أقباط أى «مصريون»، بغضّ النظر عن عقيدتهم، فضلا عن أنهم فئة أصيلة تضرب بجذورها فى تاريخنا، وتقدر بالملايين، وهم أصحاب «مظلمة تاريخية»، ألا يبرر كل هذا اضطلاع عشرات مثلى لتبقى مسألتهم حاضرة، خاصة بعد صعود تيارات الإسلام السياسى للسلطة، بما عرف عنها من عداوة تتراوح بين الفجاجة والتلون الخبيث للأقباط؟
هذه الإجابة تخاطب المنطق، لكن هناك دوافع قدرية وراء الأمر، فلم أجلس وأضع أمامى قضايا الوطن وأختار «المسألة القبطية»، فمنذ طفولتى كان هناك نداء غامض يلّح على كيانى بتساؤل مفاده: ما ذنب هؤلاء أن خلقهم الله تعالى مسيحيين، وهل يحق لأحد تسفيه معتقداتهم لمجرد أنهم يحملون عقيدة مغايرة؟
وتذهب بى التساؤلات لأبعد من ذلك: ماذا لو كان شخص ممن يتطاولون على المسيحية والمسيحيين قد ولد مسيحيًا؟، هل كان سيغير عقيدته؟ أم أنه كان سيتبنى خطابًا طائفيًا بغيضًا فى الاتجاه الآخر؟ وهذا أغلب الظن، لذلك لا أجد سببًا واحدًا لكراهية المسيحيين، فقضيتى فى هذا السياق هى الإنسانية والأوطان لا الأديان.
كثيرًا ما رصدت مشاعر المتأسلمين وسلوكهم تجاه المسيحيين فوجدته «عصابيًا» لا يتسق مع منظومة الضمير ولا الفطرة السوية، ودع عنك ما يرددونه من لغو فارغ بأنهم «يحمون الأقباط وتفسيراتهم للشريعة تكفل ذلك»، فالحامى بعد الله ينبغى أن يكون «دولة القانون»، التى تعامل مواطنيها بميزان العدالة فى الحقوق والواجبات.
ولعل أول انتهاك تمارسه الأنظمة المستبدة هو وضع خانة الديانة فى بطاقات الهوية، ناهيك عن الكيل بمكاييل شتى فى معاملة غير المسلمين، وحتى المسلمين الذين يحملون قناعات مغايرة لجماعات الإسلام السياسى، التى أراها تجتهد فى البحث عن عدو، ولو لم تجده لاخترعته، لأنها تتعيش على الكراهية.
يحاسبنى ربى أننى لم أتربح من مواقفى، ومن يملك دليلا ضدى فليعلنه، بل على العكس تعرضت لمحن شتى، بدءًا باتهامى بالتنصير، وهذا كذب وافتراء، مرورًا بتهمة معاداة الإسلام، وهذه فرية لا أهتم بالرد عليها لسبب بسيط أن هناك ربًّا يطلع على الصدور، وهو ما يعنينى دون سواه، ولا أكترث بهؤلاء المسكونين بكراهية مخالفيهم، لأسباب أراها نفسية أكثر منها دينية.
ولعلى لا أمنح ذاتى أكثر من قدرها حين أرى أننى كنت ومازلت متصالحًا مع نفسى والعالم، مسكونًا بسلام ويقين بأن الإخلاص لقضية عادلة هو «مهمة مقدسة»، ليس للمرء يدُ فيه سوى أن يجتهد فى فهم ما يدور حوله، وأن يحتمل الأذى فى سبيل ذلك بنفس راضية مطمئنة، بأن العناية الإلهية ستقول كلمتها الحاسمة يومًا.
كما أعترف بأننى منحاز بالفطرة لكل المهمشين، وأزيدكم من الشعر بيتًا، أننى أوذيت كثيرًا حتى من بعض هؤلاء الذين حملت مسألتهم على عاتقى، لكن «الضمير اليقظ» كان يلتمس لهم العذر، فالمضطهد يتوجس ويفتش عن الدوافع التى تجعل شخصًا مثلى يحمل على عاتقه مسؤولية كهذه دون مغنم.
محنٌ كثيرة تحملتها برضا، لعل أبسطها حملات التكفير التى يشنها ضدى المتأسلمون، وأقساها «نوبات الاكتئاب» التى تعترى المرء أحيانًا، لأننا بشر ولسنا ملائكة ولا قديسين، لهذا أتأمل كثيرًا وأقرأ أكثر: من «بستان الرهبان»، إلى «المواقف والمخاطبات» للنفّرى، لأكتشف أن قيمة واحدة تختزل قصة العالم، وهى صناعة الضمير.
والضمير ليس العقل ولا الوجدان ولا العقيدة، بل خلاصة كل ذلك وأكثر، فهو مناط التكليف، وما يميزنا عن بقية المخلوقات، وكلما ارتقى المرء بإنسانيته يتعاظم شعوره بالمسؤولية، ليس فقط عن سلوكه، بل يمتد لآلام الآخرين وأوجاعهم.
وأخيرًا شكرا للمحن لأنها تنير بصيرتنا، وتزيح الغشاوة عن عيوننا، نتألم.. نحزن.. نكتئب، هذا يحدث كثيرًا، لكن الوقفة مع النفس ضرورية رغم إيقاع الحياة اللاهث، وعلينا استشراف المستقبل ببصيرة المتصالحين الذين يثقون بعدالة السماء، لهذا لا يخشون ضريبة خياراتهم فى الحياة مهما كانت فادحة.
Nabil@elaph.com