الأقباط متحدون - لماذا أنا ملحدة
أخر تحديث ٠١:٣٥ | الاثنين ١ ابريل ٢٠١٣ | ٢٣برمهات ١٧٢٩ ش | العدد ٣٠٨٣ السنة الثامنة
إغلاق تصغير

لماذا أنا ملحدة

بقلم: جمانة حداد
“مقام فكرة الله الفلسفية أو مكانها في عالم الفكر الإنساني لا يرجع لما فيها من عناصر القوة الإقناعية الفلسفية وإنما يعود لحالة يسميها علماء النفس التبرير. أصل فكرة الله تطورت عن حالات بدائية، وشقت طريقها لعالم الفكر من حالات وهم وخوف وجهل بأسباب الأشياء الطبيعية“. إسماعيل أدهم  – “لماذا أنا ملحد” (1937)
 
أنا ملحدة. هذا ليس شعاراً من الشعارات التي تتبدّل مع الوقت، تبعاً للظروف والأحوال. هذا ليس ادعاءً أتبنّاه لأكون على موضة العصر الذي قد يبدو بعضه ملحداً، وبعضه الآخر مغرقاً في التديّن الظلامي الأعمى.
أنا ملحدة، بناءً على موقف عقلي بحت. 
 
في ما مضى، عندما كنتُ طفلةً، كنتُ أشعر بأني مؤمنة. بأنّ الله الذي تنشّأتُ على حبّه في بيئتي العائلية، هو جوهرٌ أساسيّ في كياني. بأنّ الحياة الشخصية، والعائلية، والاجتماعية، والثقافية، والروحية، بل الحياة في الكون مطلقاً، لا يمكن أن تكون إلاّ به. مع الوقت، لم أعد أشعر هذا الشعور. لم أعد أشعر بأنّ هذا الجوهر يملأ كياني. أنا لم أعد أنا التي وُلِدتْ في تلك البيئة المؤمنة. لماذا؟ ألأني أريد أن أخرج على طفولتي، وطقوسي، وتقاليدي، وبيئتي، وأهلي، وعائلتي؟ أم لأني تأثرتُ بجوهر مناقض، يملي عليَّ موقفاً مضاداً لما تنشّأتُ عليه؟
 
هذا المقال ليس بحثاً عن الله. إنه بكل بساطة، بحثٌ عنّي. عن أغواري. عن السفر الداخلي الذي أسافره في أعماقي، حيث أحفر عميقاً عميقاً لأكتنه نفسي، فلا أجد ذلك الله الذي كان أساس حياتي في ما مضى.
لم يعد الله نبعاً لحياتي، أو جوهراً، أو حقيقة. أصبح فكرةً أتلقّاها بالعقل، وأتعامل معها بالعقل، قبولاً أو رفضاً.
ولأنني الآن، لا أشعر بأن هذه الفكرة تقنع كياني، وتغمره، وتأخذ به في دروب الحياة والتأمل والتفكير والكتابة والكينونة والممارسة الوجودية، أقول إني ملحدة. أقول إني، على هذا المستوى من إدراكي لذاتي، أشعر بأن الله هو عدمٌ مطلق. لا حقيقة.
 
إنها مسألة حياة أحياها، وأنا لا أشعر بأن هذه الحياة تحتاج إلى ذلك الجوهر (و”السند”) الذي كنتُ قد تنشّأتُ عليه. لا أشعر بأن ذلك الجوهر هو جزء منّي. أو من جوهر وجودي. أنا أحيا الآن، بدون الله في داخلي. هذا هو باختصار موقفي العقلي والوجودي من مسألة الإيمان.
لهذا السبب، لم أعد مؤمنة. لهذا السبب أنا ملحدة. 
 
ولأوضح: ليس عندي شعورٌ بالعذاب من جرّاء عدم الإيمان بالله. بل أشعر بأن نوعاً من التوازن الروحي والجسدي والعقلي والفلسفي يملأ سيرورتي، ويمنحني أن أكون امرأة “طبيعية”. ليس عندي أحمالٌ أو تابوهاتٌ إيمانية وإلهية، تثقل وجودي. لهذا السبب أشعر بأني خفيفة. وبأني طليقة. وبأني غير مقيّدة بإرثٍ عميق الجذور كهذا الإرث. أشعر بأني موجودة فحسب. وبأن عقلي، بما يجنيه من مشاعر وأحاسيس وعلوم وثقافات وقيم وحضارات ومفاهيم وأسئلة وأجوبة وشكوك ويقينات، هو الإيمان الوحيد الذي أؤمن به.
 
لا أقول ذلك، تحدياً، ولا استعراضاً، ولا على سبيل الزعم الفلسفي أو النظري، بل أُدرِج هذا الموقف باعتباره خلاصة تجربة وجودية في الحياة فحسب. هذه الخلاصة، هي ثمرة تجسدٍ للعقل في اختبارات وجودي.
ولأني لا أتوقف عن الاختبار، ومواجهة الذات ويقيناتها بالشكّ، وطرح الأسئلة، فإن مسألة الله صارت عندي تحت مجهر التفكير في النسبيات لا تحت مجهر المطلق السابق للعقل. 
 
وإذا طرحتُ على نفسي الآن، السؤال الآتي: أيّ إحساسٍ يملأني حيال هذه الخلاصة العقلية، التي تقول إن الله لا وجود له في حياتي، وإن خالق البشرية المفترَض ليس سوى أحد مخلوقاتها/ اختراعاتها؟ أجيب بسرعة، ولكن بدون تسرّعٍ نزِق: هو الإحساس بالمصالحة مع الذات، بكل مكوّناتها، بطفولتها، بماضيها، بحاضرها، بتناقضاتها، باحتمالاتها، وبتناغماتها. والإحساس بالمصالحة مع الكون، بكل مكوّناته، بطبيعته، بتاريخه، بجغرافيته، بشعوبه، بكيميائه وفيزيائه وأرضه ومياهه وكواكبه.
 
أنا أؤمن بالعلم. بما اخترقه إلى الآن (الكثير منه يدحض اقتراح الله في شكل حاسم، أو في الأقل “ضرورته” كتفسير لوجود هذا الكون) وبما سوف يخترقه في الغد. مع كلّ احترامي للأشخاص الذين يؤمنون بالحكايات الخرافية (ويحتاجون إليها كدعامات)، ماذا تكون الأديان سوى أدوات عزاء وهمية تستهدف الملايين والملايين من العقول التائقة إلى من يطمئنها، في خضمّ أوجاعها ومخاوفها وشكوكها وتحدياتها اليومية وأزماتها؟ هل نريد حقاً أن نجازف بحياتنا، ومبادئنا، ومواقفنا، وخياراتنا، كرهان على ذلك؟ ألن يكون من الأسلم والأجدى أن نحترم المبادئ الأخلاقية والمعنوية الدنيوية، القائمة على القيم الإنسانية العالمية؟ ألن يكون من الأسلم والأجدى أن نقرّر بأنفسنا ما هي أخطاؤنا ونحاول أن نصحّحها؟ هل صحيح (وعادل) أن نعتبر أنّ فرضية الله تجسيد للحبّ والسماح وتقبّل الآخر والأخلاق، والطريقة الوحيدة لإنقاذ الإنسان من “حيوانيته” أو غرائزه “الشريرة”؟ ليس إذا كنتَ متديناً على نحو أعمى. ليس إذا كنتَ طائفياً بعنف. ليس إذا كنتَ تلتزم حرفياً أحكام دينك – مهما يكن هذا الدين – وتسلّم أمرك ورأيك وقدرتك على الحكم والتفكير إلى جهة تزعم أنها “أعلى” منك، فتصدّق بسلامة طويّة كلّ كلمة يتلّفظ بها كبار المسؤولين الدينيين في طائفتك، وتكيّف حياتك، ورؤياك، وأعمالك مع تلك الحلقة المفرغة من القوانين والوصايا (التي تبلغ في بعض الأحيان حدوداً عبثية)، تلك القوانين والوصايا التي كان شخصٌ آخر قد فكّر فيها بالنيابة عنك، وقرّر أنها تناسبك وتمنحك بطاقة غير مشروطة لـ”الدخول إلى الجنة“. 
 
فضلاً عن إلحادي العقلي و”العقلاني”، ينبغي لي، للنزاهة الفكرية، أن أضيف أني أجد في بعض العقائد الدينية الثابتة إهانات لا تحصى لكينونتي كإنسان/ إنسانة. أنا أتفهّم طبعاً حاجة العديد من الناس إلى الإيمان بشيء/ كائن/ قوّة أكبر منهم، والركون إلى فكرة أنّ “أحداً” ما يسهر على سلامتهم ويعتني بهم. هذه هي، أصلاً، الحاجة التي استثمرها مؤسّسو الديانات على مرّ العصور بغية التحكّم بالجماعات من طريق استغلال خوفٍ طبيعي ومشروع، في سبيل السيطرة على العقول والسلوكيات والمصادر الانسانية والاقتصادية والسياسية في العالم.
أتحدّث هنا تحديداً عن الأديان التوحيدية الثلاثة التي نشأتُ في كنفها (حوض المتوسط)، والتي هي في الواقع دينٌ واحد بمتغيرات أو تأويلات ثلاثة: اليهودية فالمسيحية ثم الإسلام. 
 
مشكلتي مع هذه الأديان الثلاثة، كلّها ومن دون استثناء، أنها قد أثبتت عبر الزمن، وبألف طريقة وطريقة، أنها متناقضة، فهي تناقض ذاتها بذاتها. وأنها عنصرية، متحاملة على النساء، عديمة الرحمة، دموية، رافضة للاختلاف، متحيّزة عملانياً ضدّ الإنسانية والحريات وحقوق الإنسان. وهي متحيّزةٌ خصوصاً ضدّ سلامة المنطق ورجاحة العقل وإنجازات العِلم. إنها مؤسّساتٌ جبلتها يد نخبة من مشتهي السلطة، ولا تهدف سوى إلى التحكّم بالناس وبحيواتهم ومواردهم وقراراتهم من طريق بيعهم وهماً رائعاً اسمه “الحياة ما بعد الموت”، ابتدعته عقول مجموعة من العباقرة (يُعرفون تارةً بالأنبياء وتارةً أخرى بالقديسين والشيوخ والمتصوّفة). ناهيك بأن هذه الأديان الثلاثة أقدمت كلها، في مجرى تاريخها، على توظيف العنف والإرهاب ترويجاً لأهدافها، وتصدّت بشراسة للقوى العلمانية والمتنورة التي برزت لتهدّد استمراريتها، وولّدت بسبب طابعها الحصريّ (إن لم تكن معي فأنت عدوّي، فأنت كافر، فأنت إنسان سيئ)، ظلماً مباشراً أو مبطّناً بحقّ الذين لا يتبعونها.
 
بناء على ما سبق، فإن الأسباب التي تدفعني الى موقفٍ انتقادي (“برّاني” و”بارد”) من الأديان التوحيدية كثيرة، لكني سأورد في ما يأتي اثنين منها فقط، أعتبرهما رئيسيين وجوهريين:
الأديان التوحيدية تُشعرني بالإهانة، أولاً، لأنّي امرأة. امرأة ذات كرامة. امرأة تؤمن بشكل لا مجال فيه للشك بأنها مساوية للرجل، وبأنه ينبغي لها أن تتمتع بالحقوق والامتيازات نفسها التي يتمتع هو بها. فكيف يسعني ألاّ أرفض أدياناً كارهة للنساء بشكلٍ متأصّل، ومعادية لمبدأ المساواة بين الجنسين، وتتنافس في ما بينها لتطبيق المعايير البطريركية، من إذلال للنساء، إلى تصنيفهنّ كملكٍ من أملاك الرجل، وقمعهنّ، والتعامل معهنّ بدونية؟ إليكم، قبل أن أمضي قدماً، مقتطفات من الكتب السماوية المقدّسة الثلاثة: 
 
“لا تشته امرأة قريبك ولا عبده ولا أمته ولا ثوره ولا حماره ولا شيئًا مما لقريبك (العهد القديم، سفر الخروج، الاصحاح العشرون، آية 17)”
“لتتعلم المرأة بسكوت في كل خضوع. ولكن لست آذن للمرأة أن تعلم ولا تتسلط على الرجل بل تكون في سكوت. لأنّ آدم جُبل أولاً ثم حواء. وآدم لم يغو لكن المرأة أغويت فحصلت في التعدي. ولكنها ستخلص بولادة الأولاد إن ثبتن في الإيمان والمحبة والقداسة مع التعقل” (رسالة بولس الرسول الأولى إلى تيموثاوس، 2: 11-15).
“الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعضٍ وبما أنفقوا من أموالهم فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلاً إن الله كان علياً كبيراً” (القرآن، سورة النساء، 34)
 
استناداً إلى ما سبق، وما هو إلا نقطة في بحر هائل من الميزوجينية، هل يُعقل أن نكون يهوداً أو مسيحيين أو مسلمين، ومؤمنين بهذه الديانات كلّ الإيمان، وأن نكافح، في الوقت عينه، النظام البطريركي، أو ندافع عن المساواة بين الجنسين؟ إنّ الإجابة بـ”نعم” ما هي إلا من مظاهر التناقض والانكار المتعدّدة التي نعيشها اليوم. فهذه الأديان الثلاثة تتبنّى الموقف نفسه تجاه المرأة، وإنْ بوجوه وأقنعة مختلفة: موقفاً مستبدّاً وجائراً ومهيناً، منذ البدء مع حكاية “الضلع” و”الخطيئة الأصلية” التي حُمِّلت المرأة وزرها، حتى يومنا هذا. متى نُقرّ تالياً بأن لا سبيل لتحقيق الانسجام بين التعاليم السماوية من جهة، وكرامة المرأة وحقوقها من جهة أخرى؟ 
 
هذا لا يعني أني أنادي، على مستوى النطاق العام، الى دولة ملحدة. لكني، أبعد من موقفي الخاص حيال مسألة الايمان، لا بد من أن أطالب بأنظمة علمانية في حدّها الأدنى. لطالما نالت المرأة حقوقها وحريّتها في مختلف أنحاء العالم ضمن إطار علماني، ومن الضروري- لا بل من الأساسي- ألاّ يغفل المرء عن ذلك. بطبيعة الحال، ليست العلمانية الضامن الوحيد للمساواة بين الجنسين. فوحدها لا تكفي، لكنّها جزءٌ لا يتجزّأ من الوصول إلى هذا الهدف. 
 
أرجو ألا يتجرأ شخصٌ ما، فيقول إنّ أفكاري هذه ما هي إلا مخلّفات فيروس “غربي” انتقل إليّ (وهو أسهل اتّهام يُوجّه إلى عربيّ أو عربية يدافعان عن مبادئ العلمانية والحرية والمساواة بين الجنسين إلخ). لكأنّ هناك فرقاً بين “الحرية العربية” و”الحرية الغربية”، و”الكرامة العربية” و”الكرامة الغربية” إلخ. حقوق الإنسان إنسانية، عالمية، وليست حكراً على الغرب. لمن المعيب والمذلّ لنا نحن العرب أن نعتبرها محصورةً بالغرب. فلنعد إلى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي صادقت عليه معظم الدول العربية (نظرياً)، تفهموا ما أقصد. 
 
من هنا، أتأسّف على جميع أولئك النساء والرجال، أصحاب النيّات الحسنة، الذين لا يوفّرون جهداً للتوفيق بين طرفين متناقضين كلّ التناقض، متسلّحين بتفسيرات وتأويلات “معقّدة” للغاية، وبأسلوب انتقائي في قراءة النصوص الدينية، لكنّني أكرّر: إنّ الأديان السماوية تقصي النسوية، والعكس صحيح، إلا إذا كنتم تعتمدون “الانتقائية” في تفسيركم لكلا المفهومين. إنها أديان تحطّ من قدر النساء بمظاهر مختلفة، وتؤكّد، بشكل واضح وصريح، أنّ الرجال “متفوّقون” (قوّامون؟ رؤوس؟ حماة؟ أسياد؟) على النساء.
 
وبعد: الأديان التوحيدية تشعرني بالإهانة، ثانياً، لأني أؤمن بأن جسدي ملكي، ولا حدّ لنفاق الأديان السماوية في ما يتعلّق بموضوع الجنس. فضلاً عن أني لا أفهم لمذا يشغل رجال الدين بالَهم وتفكيرهم بكيفية استخدامنا لأعضائنا التناسلية؟ إنّنا محاطون بالمتزمّتين الزائفين، من أمثال أسامة بن لادن ومخزونه المزعوم من الشرائط الإباحية، وصولا الى الكهنة المتحرّشين بالأطفال. في الواقع، يمكن اختصار ذلك كلّه بكلمة واحدة: السيطرة. 
 
المجتمعات العربية مبتلية بانفصام حادّ؛ أشخاص طاهرون في العلن وفاسقون غالباً في الخفاء؛ أشخاص مهووسون بالجنس، لكنهم لا يستطيعون حمل أنفسهم على التحدّث عنه أو ممارسته بكلّ حرية؛ أشخاص يتلون على مسامعنا محاضرات في القيم الأخلاقية والعفّة، لكنهم أبعد ما يكونون عنها؛ أشخاص يدعون إلى الصلاة والتطهّر من الآثام، لكنهم ينفّسون عن رغباتهم المكبوتة وعُقدهم حيث لا عين ترى ولا أذن تسمع. 
 
في ثقافتنا، تندرج الفضيلة والعفة كمفهومَين مترادفين، يمكن استبدال أحدهما بالآخر. كذلك بالنسبة إلى الحرية والفجور، ولاسيّما في حال النساء: متلازمة كازانوفا من جهة (الرجل “الفحل”) ومتلازمة الفاجرة (المرأة “السهلة”) من جهة أخرى. لا يزال المجتمع يتوقّع من النساء أن يحافظنَ على عذريتهنّ في انتظار الزواج؛ ولا يزال مفهوم الشرف يرتبط ارتباطاً وثيقاً بمنفرج ساقَي المرأة، وأجساد النساء تعتبر مكاسبَ من حقّ الرجال. فضلاً عن ذلك، غالباً ما يُنظَر إلى المرأة الراشدة “المتحرّرة” كساقطة، لا كشخصٍ يحقّ له أن يقرّر ما يفعل بجسده، سواء أقرّرت مضاجعة رجل أم خمسة رجال أم عدم مقاربة أيّ رجل على الإطلاق.
 
يزيد الطين بلّةً أنّ بعض النساء يتجرّأنَ فيزعمنَ أنّ هذه المعاملة الفوقية التي يلقينها إنما هي “خيارهنّ”. لعلّ ما يحزّ في النفس فعلاً، نفسي على الأقل، هو كيف توافق هؤلاء النسوة على المعاملة المذلّة، فيساومن بذلك على حقهنّ في استخدام أجسادهنّ بالطريقة التي يخترنها. نرى الأمّهات ينحزنَ إلى صفّ الأسرة عند ارتكاب جرائم الشرف، أو يلتزمنَ صمتاً مخزياً، أو يسحبنَ بناتهنّ إلى الطبيب النسائي كي يرقّع أغشية بكارتهنّ أو يحرمنهنّ حق اللذة عبر إخضاعهنّ للختان. كم من امرأةٍ منهنّ تلاعب بعقلها المجتمعُ البطريركي، فعاشت إنكاراً قسرياً للذات بفعل عملية غسيل دماغي استمرّت قروناً؛ امرأة لا تبرح تردّد العبارات نفسها التي شرّبتها إياها المجتمعات والأديان الذكورية. 
 
يُلقّن المسيحيّون من جهة بأنّ الجنس تجسيدٌ للخطيئة: لا بأس من ممارسته، لكن في إطار الزواج وضمنياً بهدف التناسل لا غير. كلّ ما خلا ذلك إثمٌ لا يغتفر، يرسل بالخاطئ إلى جهنّم مباشرةً. أما لدى المسلمين، فيكفي أن نقارن التقشف المفروض على المؤمنين في هذه الحياة الدنيا، بمواصفات الجنة الموعودة لكل مسلم صالح: استناداً إلى أحاديث شريفة متنوّعة، سيُكافأ هذا بتزويجه خمسين (أو ستين أو اثنتين وسبعين: ما الفرق؟) عذراء لهنّ صدورٌ “عارمة” أو “مكتنزة” أو “ناتئة كحبّتي رمّان” (تبعاً لذوق الرجل)، وهي صدورٌ لا تصاب بالترهّل البتة. من الأحاديث الأخرى ما يورد أنّ الرجل في الجنّة يملك قضيباً منتصباً أبداً لا يصيبه الارتخاء ولا ينال منه الضعف!
 
أوّل ما يتبادر إلى الذهن بعد قراءة مواصفات الجنة المذكورة أعلاه- إذا كان المرء صحيح العقل سليم المنطق- مدى انعدام الثقة بالنفس لدى الذكور، ناهيك بحسّهم بالتملّك. أما الفكرة الثانية، فهي: ماذا عن المسلمات الصالحات؟ ما الذي ينلنه في نهاية المطاف؟ أمن المعقول أن يحقّ لأزواجهنّ التنعّم بأربع زوجات في الحياة الدنيا و72 زوجة في الآخرة، فيما لا يحصلنَ هنّ على شيء في المقابل؟ ألن تُغدَق عليهنّ مكافأة جنسية أيضاً؟ بالطبع لا، بما أنّ الرجل، الرجل وحده، هو صاحب الشهوة والرغبات الجنسية؛ فيما تخضع المرأة لهذه التجربة كواجبٍ ليس إلا. هذا كلّه يردّنا، من جديد، إلى المعايير المزدوجة المعتمدة في الدين. لقد تعلّم الكثيرون، منذ نعومة أظفارهم، أنّ الجنس خطيئة، وعمل قذر وفاسد. وها هو الرجل يُكافَأ (مكافأة غير مضمونة البتة) في الحياة الأخرى بكمية وافرة مما اعتُبر “قذراً” وخطيئة” على الأرض. أمرٌ منطقيّ تماماً، أليس كذلك؟
 
حسبنا أن نذكر، كمثالٍ ثان على هذه الازدواجية المقيتة، الكلمات المروّعة التي كتبها الخميني، في كتابه “تحرير الوسيلة”: “لا يجوز وطء الزوجة قبل إكمال تسع سنين، دواماً كان النكاح أو منقطعاً، وأما سائر الاستمتاعات كاللمس بشهوة والضم والتفخيذ فلا بأس بها حتى في الرضيعة، ولو وطأها قبل التسع ولم يفضها لم يترتب عليه شيء غير الإثم على الأقوى“.
 
أما لدى السنّة، فهاكم هذه الفتوى حول حكم زواج الكبير بالصغيرة والاستمتاع بها: “إن الصغيرة التي لم تحض بعد يمكن أن تتزوج وتطلق فتكون عدتها حينئذ ثلاثة ‏أشهر. وإذا تزوج الرجل الكبير البنت الصغيرة التي يستمتع بمثلها عادة جاز له أن يستمتع بها بكل أنواع ‏الاستمتاع المباحة شرعاً.‏ أما وطؤها فلا يطأها حتى تكون مطيقة للوطء بحيث لا يضر بها” (رقم الفتوى: 11251- التصنيف: اختيار الزوجين). هذا فضلاً عمّا ورد في “فتح الباري شرح صحيح البخاري”، في باب “كتاب النكاح”، حول تزويج الصغار من الكبار: “يجوز تزويج الصغيرة بالكبير إجماعاًً ولو كانت في المهد لكن لا يمكن منها حتى تصلح للوطء“.
هل ثمة أفظع من تحليل الاستمتاع بـ”رضيعة”، بينما يُحرّم الخمر ولحم الخنزير؟
 
ختاماً، أكرّر: لست ملحدة لأني ماركسية. ولا أنا ملحدة لأني عدمية. أو من أتباع الشيطان. أو أشتهي إثارة الانتباه. أو أرغب في زيادة عدد أعدائي: لديَّ من الانتباه (ومن الأعداء) ما يكفيني وأكثر. أنا ملحدة، بكل بساطة، لأن عقلي، وكرامتي كإنسان/ إنسانة، يحولان دون إيماني. وأؤمن بأن من حقّي أن أعبّر عن ذلك. 
 
أعرف أنّ الكثير من المؤمنين سيشعرون بالإستياء (في أقل تقدير)  لدى قراءة هذا النص. لهؤلاء أقول: صحيحٌ أنكم قد تحسّون بالإهانة لتعبيري عن عدم إيماني، لكنّ الوقت قد حان لتدركوا أننا، أنا وآخرين مثلي، موجودون (وبكثرة)، وأننا نشعر بالدرجة نفسها من الإهانة لفرضكم علينا إيمانكم كلّ يوم، بشتى الوسائل والأساليب، وأينما كان من حولنا. لا بل ان تعبير الملحدين عن آرائهم لا يعادل، بأيّ شكلٍ من الأشكال، حجم الاستعراض الديني الذي تُغرقوننا فيه كلّ يوم.
عندما لا يعود إلحادي مصدراً لمشاعر الإهانة التي تعصف بكم، وعندما تصبحون أكثر تسامحاً حيال وجودي ووجود الملحدين غيري، عندها فقط أكون قد أثبتّ وجهة نظري. في المناسبة، إنّ التسامح لا يعني الامتناع عن رجمنا أو إحراقنا، كما لا ينفكّ بعض القرّاء المسيحيّين المنافقين يذكّرونني، لإقناعي بأنّ دينهم “أفضل” وأكثر رحمة من الإسلام. نحن غير مضطرين أيها المسيحيون الكرام لأن نقدّم لكم جزيل شكرنا وامتناننا لأنّكم “تسمحون” لنا بأن نمارس حقّنا في التعبير عن أنفسنا من دون أن نُقتَل في المقابل. أما من سيشعر بالغضب بسبب كلامي، فله أن يتجاهلني وينام قرير العين، بما أنه يعلم علم “اليقين” أنّ ربّه سيعاقبني. 
 
مسؤوليتنا كجنس “عاقل” تقضي بالوقوف في وجوه أولئك الذين يريدون غسل أدمغتنا وتضليلها ومنعها من التقدم. مسؤوليتنا تقضي بإدراكنا أنّ كل هذه الأديان التي تتمثّل بآلهة وشخصيات ذكورية فقط (من بابوات وشيوخ وأئمة وكهنة وقساوسة وأنبياء وغيرهم) تشكو، ولا بدّ، من علة. مسؤوليتنا تقضي بإيماننا بقوة مجتمع مدني علماني ينقلنا من قطعان الى مواطنين، والمساهمة في تعزيزه وتطويره. مسؤوليتنا تقضي بمكافحتنا تدخل رجال الدين المنهجي في حياتنا العامة والسياسية. لكنها تقضي، في الدرجة الأولى، بأن نجرؤ أن نسائل.
 
حريّ بنا العودة إلى ما قبل عهد “الصواب” و”الخطأ”، ما قبل عهد المؤسسات الدينية، ما قبل عهد “فكِّر مثلي” و”نحن على حقّ وهم المخطئون”. لنعد إلى ما قبل ذلك حتى: إلى ما قبل عهد الخطيئة الأصلية، وكل المؤلّفات المشوّهة وطريقة التفكير المتأثّرة بها. 
 
فلنعد إلى ما قبل آدم. ما قبل حوّاء. ما قبل الملائكة وقبل الأبالسة. قبل الصالح والمستقيم، وقبل الآثم والشرّير. ما قبل الوصايا. قبل العقاب. قبل الثواب. قبل المقدّسات. قبل الله. وقبل الشيطان.
من ثمّ، دعونا نبدأ من جديد. نبدأ نحن البشر من جديد، من تلك النقطة البيضاء بالذات. 

More Delicious Digg Email This
Facebook Google My Space Twitter