كتب:القمص أثناسيوس چورچ.
سافر اليوم إلى السماء كاهن الحق السمائي القمص بيشوي بطرس؛ الذي تتلمذ في خدمة الدياكونية الريفية على يد المتنيح الطيب الذكر الأنبا صموئيل الأسقف والشهيد، جاء من نقادة مسقط رأسه إلى قرى إيبارشية البحيرة خادمًا مكرسًا مع القمص بولس بولس أحد رُواد الدياكونية ومدارس الأحد، وصار باكورة رسامات أبينا الأنبا باخوميوس مطران البحيرة أطال الله حياته.. كذلك كان تلميذًا وابنًا في الاعتراف للطيب الذكر المتنيح القمص بيشوي كامل.. بدأ خدمته كواعظ وخادم في القرى المجاورة؛ وانطلق في الطريق الصحراوي من مكان قديم وضيق؛ لكنه خرج من الضيق إلى الرحب والسعة بمعونة القدير الذي رآه سكيبة تقدمة وحبة خردل تموت في الأرض لتصير شجرة كبيرة.. حمل معه المسيح إلى هذه المنطقة القفر وخدم مسيحه ورعيته وكان مُشعًا ديناميكيًا، ترى على وجهه أوجاع الناس ونور القيامة، وقد قضى جُل عمره وشبابه؛ لا في بيته بل في بيوت رعيته التي كانت له بمثابة بيته الكبير.. فكان يخرج هائمًا على وجهه حاملاً شنطة الأواني المقدسة والمذبح المتنقل بطول وعرض الطريق الصحراوي؛ حتى إلى مشارف مطروح ومحيطها.. والله الذي رآه يبيت في تواضعه رفعه وأنجز به ونظر إليه كحَمل؛ لذا جعله راعيًا للحُملان؛ وصارت قوة عظيمة تخرج من يديه. وقد كان رجل هِمة كبيرة؛ فحوّل الطريق الصحراوي إلى طريق كنائس من حيث لا كنيسة فيه؛ إلى عدد كبير من الكنائس لا مجال الآن لذكر عددها، لكنه جعل لكنيسة المسيح معنىً ومبنىً ووجودًا ظاهرًا وفاعلاً في منطقة خدمته؛ متسلحًا بإيمان الغاصبين للملكوت المحفوظ في صدره؛ وببساطة الروح المتحدية لعوامل العوز التي فتحت له كنوز الله.. فلم يكن له في ذلك الزمان مكان يستند عليه؛ ولم يكن في يديه فلس، لكنه كشف مؤكدًا لنا أن أهل الإيمان قادرون بقوة الروح أن يقوموا بالبناء والعمار مقدمًا مثل البنّاء الحكيم.
كل الذين إلتقوا به أحسوا بدعته وبساطته التي سكبت عليه نعمة الله؛ والتي بدونها لَما كان ذلك كذلك؛ ولَما صارت الأعمال التي كملها؛ والتي أبرزت بما لا يدع مجالاً للشك أن الله هو الذي يعمل؛ وأن الفاعل الأمين لا يخزىَ؛ وأن الله هو الذي يُنمي؛ لا الزارع ولا الساقي.
كان لعدو الخير محاولات كثيرة للقضاء على عزيمته؛ فكابد الكثير من الآلام؛ إلا أن الله صاحب الكرم آزره بروح قوة من عنده، وهو قد مات ميتات كثيرة لكي يحيا وتحيا معه هذه الأجيال ويتجدد شبابها كالنسر.. وما قال مرة أنه عمل أو أسس أو بنى... بل كنا نسمع عن العمل ونراه بعد أن يكتمل وتكمل فرحتنا به.. ولأنه يحمل سمات أصالة صعيد مصر وبساطة وغُلب المساكين بالروح فقد كانت أعماله بالله معمولة؛ وجميعها من الصعب أن يصدق أحد أنها من عمل هذا الشخص البسيط.
كان لي فيما كنت أحادثه أن أعرف حكمته في الرعاية ومواجهة الصعاب؛ فمن كنيسة صغيرة كالكوخ إلى كاتدرائية إلى كنائس ومنائر وقباب؛ لكن سره كان في عمل الذبيحة الإلهية اليومية التي قدمها على مدار سني خدمته الكهنوتية؛ فقد كان زاده اليومي صلواته وذبيحته وقرابينه المرفوعة. وهو في آخر المطاف كان له هذا الكنز في أوانٍ خزفية ليكون من الأشداء في الحرب الروحية (جبار بأس) ومن الشهود الصادقين بأن الله يعمل ويضع سره في أضعف خلقه؛ فليس بالقدرة ولا بالعلم فقط يكون البنيان وخلاص النفوس.
كان أبونا بيشوي من الحجارة الحية التي بنى بها الله ملكوته؛ فكان حجر بلا حجر في وقت كانت منطقة الصحراوي خرائب مقفرة وخاوية؛ ولا أخفي سراً إذا قلت أنه وحده استوعب طاقات مهندسين وشركات بناء بالكامل لحساب أحلامه الملكوتية. فربما كان تعليمه وثقافته بسيطة؛ لكنه كان مملوءًا من حضرة السيد؛ معروفًا عنده متلألئًا في عينيه؛ خادمًا لا يستنكف أن يكون مسكينًا؛ فصادق الفقراء كفقير مثلهم؛ لذا أحبه الأغنياء وسعوا إليه ليشاركوه في أعماله؛ فكانت أوقاته خليطًا عجيبًا يستدعي التأمل في هذا الكاهن العجيب. يصغي للفقير وللبسيط وللمعدم ثم يلتقي بأهل الذروة والطموح؛ ومع تواتر السنين نشأ حوله إجماع عجيب أدى إلى استخدام الله له في خدمات كثيرة؛ فأنشأ خدمات للمرضى والمعاقين والجانحين والأيتام؛ وأسس لهم المؤسسات التي تكفل خدمتهم مبادرًا طائعًا؛ فكان من القلائل الذي يجود بهم الزمان.. وكان طاقة استثنائية؛ لو اجتمع كثيرون لَما سدوا مسدّه؛ ولا قاموا بما قام به؛ وسيبقى رمزًا وظاهرة لخادم وكاهن القرية المتجول الذي يجول ويصلي ويبني ويعطي؛ ويندر أن نجد شخصًا في محيط رعيته بلا قصة معه؛ إذ كان ناريًا في خدمته مهمومًا بإحتياجات رعيته وعاش معهم لحمًا ودمًا؛ وهو وإن مات فهو يتكلم بعد في سيرته ورمزيته وأعماله؛ وسيبقى نموذجًا عند محبيه وعارفي فضله وعند الساعين في خدمة الكرم الإلهي.. وكم كان وفيًا ومحبًا لنيافة الحبر الجليل الأنبا باخوميوس مطران البحيرة؛ الذين يرجع لهما الفضل في وضع هذه الخدمة على خريطة الكرازة كعمل رسولي وكرازي.. كذلك من الجدير بالذكر أبوة بطريركنا المحبوب قداسة البابا تاوضروس الثاني الذي تربطه بأبينا للراحل علاقة قديمة وأصيلة منذ زمن بعيد؛ وقد زاره غبطته في مرضه الأخير لأكثر من ثلاث مرات؛ وتابع أحواله في تجربة المرض الأخيرة.. لينيح الله هذه النفس حيث الصدّيقون يفرحون ويتنعمون؛ وليعطه الجعالة الحسنة بعد أن خلع خيمة الجسد في حضور قداسة البابا تاوضروس الثاني؛ وقد لبس ملابس التقديس التي لم يخلعها قط وبيده كتاب وكالته؛ وستودعه الكنيسة إلى المجد بصلوات التسبيح والتقديس فجر الخميس بحضور طغماتها وخدامها الأوفياء؛ فليكن ذكراه مؤبدًا؛ والمجد والكرامة لإله الأحياء والأموات الذي ليس لملكه انقضاء.
اذكروني في صلواتكم