الأقباط متحدون - . يا أهل السمـــــاح
أخر تحديث ١٧:٠١ | الخميس ٢١ فبراير ٢٠١٣ | ١٤ أمشير ١٧٢٩ ش | العدد ٣٠٤٤ السنة الثامنة
إغلاق تصغير

. يا أهل السمـــــاح

كتب :نبيل المقدس           

أحببتُ أن أزور بلدي بالصعيد التي تركتها منذ سنين , مستغلا حال ركود  السوق الذي وصل إلي أدني مستواه حيث إنعدم تقريبا حركة البيع والشراء ولم يبقي غير "المناكفة" مع الزبون علي ربع جنيه خصم .. وبالرغم من تحذير الناس لي بخطورة السفر إلي بلاد الصعيد والتي تم إطلاق إسم "الـ ماو ماو " عليها , لأن السفر والوصول إليها بسلامة هي ما إلاّ "ضربة حظ" , نتيجة أخطار الحوادث التي بدأت تزداد بتقدم العلوم وبقيام النهضة المزعومة .. أو بسبب إجبار القطار علي التوقف لوجود مظاهرة فئوية خاصة لعمال مؤسسة في إحدي المحافظات لا ترتبط بالسكك الحديدية بأي مصلحة .. أو ربما مرض العصيان المدني قد وصل إلي شعب هذه المحافظات عن طريق العدوي "فـَنِتْرِِكِنْ" وننتظر بالساعات أو بالأيام طبقا لسرعة إنفراج الحل من قبل الحكومة , وهذا غاليا غير متوافر . لكن إشتياقي وشغفي أن أري وطني والأرض التي تربيت عليها وتعلمت فيها غطيا علي مخاوفي من خطورة السفر .

    وكما تعودت من قبل حيث سافرت في نفس القطار في شهر نوفمبر 2011 أي قبل ما يُقال عنها ثورة للقيام بواجب عزاء لإحدي الأحباء في بني سويف , أن ميعاد مجيء هذا القطار من المخزن علي رصيف الإنتظارهو قبل قيامه بثلث ساعة او اكثر قليلا .. دخلت الرصيف وفوجئت أنني كما لو كنت دخلت ميدان التحرير مشاركا إحدي التظاهرات .. ولم أجد القطار موجودا علي الرصيف .. لكن سألت نفسي ما سبب وجود كل هذا التجمهر علي الرصيف ؟ .. هل وصل بنا الحب والعلاقات بين المسافر ومودعيه إلي هذه الدرجة العالية من الحميمية ؟ .. لكن إفتكرت في لحظتها أن هؤلاء المودعين ربما جاءوا كمشيعيين للمسافرين بالمرة خوفا من عدم وصولهم سالمين . ضحكت في نفسي وحزنت علي نفسي أنني لوحدي بدون مودع أو مشيع . 

    وفجأة ظهر القطار بعد ساعة ونصف عند بداية الرصيف وهو يتهادي .. ويادوب هـ شم نَفَسِي وجدت جسدي ملطشة للزق والحشر والضرب غير العمدي نتيجة هذا الطوفان البشري الذي أخذ يجري بلا وعي علي الرصيف متوجهين بسرعة جنونية إلي القطار , وكأنهم وجدوا ضالتهم المنشودة. مش هـ طوّل عليكم مشقة الرحلة .. فقد  وصلت أخيرا لبلدي .. فعلا فقد صدق الذي قال أن السفر بالقطار إلي الصعيد هي ضربة حظ .. وأشكر الرب أنها كانت ضربة موفقة نسبية.  

    بعد وصولي مباشرة فكرت أن أهرع إلي أول مَا جعل قلبي يدق لها منذ طفولتي حتي باكورة شبابي .. فقد كانت أول ما رأيتها ولمستها وأحتضنتها .. كنت لا أفارقها وهي لا تفارقني من الصباح حتي بعد غروب الشمس .. كنا نفترق فقط في أوقات الفطار والغذاء والعشاء .. وعندما كنت أفارقها وأدخل إلي بيتي كنت اشعر أنني غريب بالرغم من وجود أهلي معي. كثيرا كنت أطل من البلكونة وألقي نظرة عليها من فوق .. وأتأمل في بشرتها الخمراوية ..  واتذكر كل خطوة مع مَنْ  كنت معها .. أحببتها لأنها كانت بمثابة الملجأ الوحيد للخروج إليها  عندما كنت أغضب من أهلي وأنا في عمر المراهقة .. فأجدها دائما تحوطني وتحثني أن لا أخرج إلي الشارع العمومي لكي لا أتوه في زحام المدينة .. كانت لا تبخل عليّ بأن تجعل من نفسها كجليسة تسمع أحلام مستقبلنا أنا وجيراني .. يا ما تحملت ما كنت أكتبه علي جدران جسدها من آمال وشعارات ورسومات ... بل كانت تفتخر دائما بأنها تحمل آمالي مكتوبة ومحفورة في جسدها, وكانت دائما تجعلني أقرأها يوميا لكي لا أنسي طموحاتي .. !

    كانت تستقبل فراش المدرسة وهو يحمل شهادة النجاح لي كعادة زماني حيث كنا ننتظر نتيجة نهاية العام من خلال وصول خطاب رسمي من المدرسة  .. لا أنسي كان يوم نجاحي في جميع مراحل تعليمي  ترتدي أحلي ما لديها .. وقتها كان الشباب والأصدقاء يقيمون بتزينها حتي يكتمل جمالها , وتصير عروسة تأمل في أن تجدني في أعلي المناصب .. إلي أن جئتُ بخبر تخرجي من الكلية .. ولأول مرة أحسستُ أنها بور بدلا من أن تكون في حالة سرور .. أين زهور الزينة ياحبيبتي ؟؟ .. أين نور وبهجة خدودك السمراء ؟؟ ألا تفرحين  بنجاحي ؟؟ ألا كنتِ تننظرين هذا اليوم منذ طفولتي لكي أحقق لكِ كل ما قلته لكِ عندما أكون في حضنك ... فقد كنت أوعدها دائما بأنها سوف تكون حديقة جميلة خضراء نفتخر بها .
  حبيبتي هذه هي الحارة التي عشت فيها , ولعبت علي أرضها انا وجاري مصطفي وريمون ونجلاء وفاطمة .. شكلتني الحارة أن أصبح مصريا صميما .. فقد تعلمت منها الصبر والحكمة .. تعلمت منها الأخلاقيات والسلوكيات .. علمتني كيف أندمج مع الآخرين المختلفين معي في الفكر وفي الديانة .. كانت أيام أعيادنا واحدة ومختلطة .. كانت أفراحنا مشتركة في البهجة  .. وكانت جنازاتنا مشتركة فى الحزن والألم . كنت لا تستطيع أن تفرق إن كان هذه فرح مسيحي أو مسلم .. أو جنازة مسلم او مسيحي . 

   وصلت إليها .. لكن لم أجدها ... فقد تم إقامة عمارة عليها .. يُقال عنها انها خاصة فقط للجماعة .. تعجبت وأخذت أبحث عن أي شيء تذكرني بالماضي الجميل ولم أفلح .. أين أرضك الخمراوية يا حارتنا الجميلة .. فقد تم طمسها كبقية أرض مصــر .. انت جزء من أرض مصر , فما تم علي مصر أصابك أيضا .. لم أتحمل أن أجد أرض حارتنا مدفونة تحت مباني اسمنتية .. لكن ما أراحني هو أنني رأيت مثواها الأخير .
   لم أتحمل أن امكث حتي ولو يوم واحد في المحافظة , وبنفس طريقة المجيء رجعت بالليل إلي أرض الغربة ... فهناك وجدت نفسي في الغربة .. كما أعيش الغربة الآن في منزلي ... فنحن الآن نعيش في وطن آخر غريب عن ثقافتنا وتعاليمنا الروحية والدينية والإجتماعية والثقافية  .. فقد طُمرت مصــر الأصلية في أعماق أرض غريبــة .. !! 

    أنبت نفسي .. وقلت لها هل يا تري لو لم أترك حارتنا كان سيصبح مصيرها كما هو الآن أم كانت ستظل مصـــر هي هي بل كان زمانها ترتدي ثوب التقدم والحضارة بدلا من هذا الثوب الإسود الذي عم جميع حاراتك يا مصــر . سامحيني يا حارتنا لأنني خزلتك وتركتك بدون أن أحقق لك بأن تكوني حديقة جميلة مزهرة ومخضرة .
 سماح ... يا أهل السمـــــــاح
لــــوم ... الهوى جـــــــــارح
أصل السماح طبع الملاح ... ويا بخت من سامح .


More Delicious Digg Email This
Facebook Google My Space Twitter