بقلم / هاني صبري - المحامي
في عالمٍ يقيس القوة بالسطوة، والانتصار بالغلبة، والعظمة بالعلوّ، جاء الميلاد كـ صدمة روحية وفلسفية قلبت الموازين رأسًا على عقب.
لم يأتِ الله في التجسّد ليُدهش العقول فحسب، بل ليُحرّرها من وهمٍ قديم: أن الخلاص يُصنع بالقوة، وأن المجد لا يُنال إلا من أعلى.
في مغارة بيت لحم، لم يولد حدث ديني عابر، بل وُلد منطق جديد للوجود.
الله الذي كان في السماء، اختار أن ينزل، لا ضعفًا بل حبًا، لا اضطرارًا بل فداءً، لا ليُلغِي الإنسان بل ليُعيده إلى نفسه.
التجسّد ليس ضد العقل، بل هو ذروته الأخلاقية.
كثيرون حاولوا أن يصوروا التجسد وكأنه صدام مع العقل، لكن الحقيقة أن التجسد هو أعمق استجابة لأسئلة العقل الإنساني. كيف يُشفى الكسر بين السماء والأرض؟ كيف يُسترد الإنسان من سقوطه دون أن يُلغى حريته؟
كان الجواب إلهيًا بامتياز: أن يدخل الله إلى جرح الإنسان، لا من الخارج، بل من الداخل.
في يسوع المسيح، صار الله قريبًا لا متعاليًا، مشاركًا لا مراقبًا، متألمًا لا محايدًا.
وهنا تتجلى حكمة التجسد: الخلاص لا يُفرض، بل يُحتضن.
حين لبس الله جسد الإنسان، لم يُصغِّر ذاته، بل رفع الإنسان.
نزل إلينا، لا ليبقى في المذود، بل ليقودنا إلى عرش المجد.
يقول الكتاب المقدس: «أُجْرَةُ الْخَطِيَّةِ هِيَ مَوْتٌ، وَأَمَّا هِبَةُ اللهِ فَهِيَ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ»
وفي الميلاد، بدأت مسيرة الفداء.
لم يكن الصليب حدثًا مفاجئًا، بل ثمرة حتمية للتجسّد.
فالذي وُلد في اتضاع، عاش في محبة، ومات بدلًا عنا، وقام لأجلنا ، وسدّد عن الإنسان دَينه، وحمل عنه عجزه، وفتح له باب الحياة الأبدية.
أن الله لم يطالب الإنسان بما لا يستطيع، بل فعل عنه ما لم يكن قادرًا عليه. هذا هو سر وعظمة الميلاد:
في الكريسماس، لا نحتفل بذكرى، بل نواجه سؤالًا:
كيف نعيش بعد أن أحبنا الله إلى هذا الحد؟
الميلاد ليس زينة ولا طقسًا موسميًا، بل دعوة أخلاقية وإنسانية: محبة تُعيد تعريف الإنسان.
أن نحب بلا شروط،
أن نغفر بلا حساب، أن نرى في الآخر إنسانًا، لا عبئًا، وأن نؤمن أن النور أقوى من الظلمة، مهما طال الليل.
في هذا العيد المجيد، نشكر الرب يسوع، على هذا الحب الإلهي العجيب، الأعظم في الوجود،لم تترك الإنسان أسير خطيئته، بل أعطانا الخلاص، والرجاء، والحياة الأبدية.
حبك الإلهي ليس فكرة، بل فعل، ليس شعارًا، بل صليبًا، وقيامة ونصره وغلبه.
الميلاد المجيد ليس لحظة تاريخية، بل حياة تُعاش.
ونحن نحتفل بعيد الميلاد المجيد، نتقدم بالتهنئة إلى العالم أجمع،
راجين أن تعمّ أفراح وبركة الميلاد كل بيت، وأن يحمل هذا العيد سلامًا للقلوب، ونورًا للأرواح، ورجاءً للإنسان أينما كان.
الميلاد يقول لنا جميعًا، مؤمنين وغير مؤمنين: السماء لم تُغلق أبوابها،
والله لم ينسَ الإنسان، والمحبة مازالت قوية ورجاء لا يخيب .
"المجد لله في الأعالي، وعلى الأرض السلام، وبالناس المسرة".





