الأب جون جبرائيل الدومنيكانيّ

أوّلاً: الحدث أزمة حدود
ما جرى في مترو القاهرة لا يمكن اختزاله في "خلاف عابر" بين مسنّ وفتاة، ولا في "نصيحة أسيء فهمها"، بل يكشف عن "أزمة بنيويّة في مفهوم الحدود الشخصيّة داخل المجال العامّ"، حيث تُمحى الفواصل بين: ما هو "شخصيّ" وما هو "عام"؛ ما هو "أخلاقيّ فرديّ" وما هو "قانونيّ"؛ وما هو "نصيحة وما هو "سلطة قهريّة غير شرعيّة".

المترو، بوصفه فضاءً عامًا، لا يُدار بالأعراف الشخصيّة، بل بالقانون وحده. وكلّ تجاوز لهذا المبدأ هو بداية الفوضى المدنيّة والأخلاقيّة العامّة، حتى لو ارتدى ثوب الأصول أو الحرص.

ثانيًا: البُعد الجندري: حين يكون جسد المرأة دائمًا "قضيّة"
القضية الأولى التي لا يمكن تغاضيها هي أنّ الشخص الذي وُجِّه إليه التوبيخ امرأة. ومن ثمّ، فالعبارة المفتاح هنا ليست «نزّلي رجلك»، بل «إنتي قاعدة قدّام رجالة». هذه الجملة تُحمِّل جسد المرأة عبئًا أخلاقيًّا لا يُحمَّل لجسد الرجل، وتفترض ضمنيًا:
أنّ وجود الرجل يُحوِّل الجسد الأنثويّ إلى «مشكلة»،
وأنّ المرأة مسؤولة عن ضبط نفسها وفقًا لنظرة الرجل وسلوكه،
وأنّ المجال العامّ ليس محايدًا، بل مذكَّر، والمرأة فيه ضيف خانع.

لو كان الجالس شابًا واضعًا قدمًا فوق أخرى، لما تحوّل المشهد إلى وعظ أخلاقي مرتبط بنوع جنسه. إذًا نحن أمام سلطة ذكوريّة تُمارِس وصايتها على الجسد الأنثويّ باسم الأدب والأصول. وهذا ليس رأيًا للرجل المسنّ، بل نمطٌ اجتماعيّ موثَّق في مجتمعات تُؤنِّث الآداب وتُؤنث السلوك.

ثالثًا: غياب التمييز بين المجال العام والمجال الشخصيّ
المجال العام يُضبط وفق معيار واحد فقط: هل هذا الفعل يُحدث أذى مادّيًا أو معنويًّا أو جسديًّا أو قانونيًّا للآخرين؟
فالفتاة مثلًا لم تكن تدخّن داخل العربة، ولم تعتد جسديًا أو لفظيًا، لم تعق الحركة، لم تسمع الأغاني بصوت مرتفع يؤذي الآخرين، ولم تخالف لائحة المترو.
وضعية الجلوس مهما بدت غير مريحة ثقافيًا، لبعض من يرى فيها وفقًا لثقافتها أنّها قلّة احترام للآخر، ليست أذى عامًا، هي محض تصرف شخصي لا يستطيع المجال العامّ انتهاكه.

الضرر الذي شعر به الرجل المسنّ هنا ليس موضوعيًا، بل هو أخلاقيّ متخيَّل في فكره وثقافته، نابع من تصوّرات مسبقة عن الجسد وآداب الجلوس.
وهنا الخطر: حين تتحوّل الحساسيّات الشخصيّة إلى أدوات ضبط اجتماعيّ.
فتخيّلوا لو فتحنا هذا الباب، فلن يُغلق: اليوم «نزّلي رجلك»، غدًا «غطّي شعرك»، بعده «ما تركبيش المترو أصلًا».

رابعًا: أخطر ما في المشهد: اغتصاب وظيفة الدولة
القضية الأخطر التي أود طرحها هي أنّ الرجل المسنّ (وهو هنا ممثل للسلطة الذكوريّة) نصّب نفسه قاضيًا ومنفّذًا في آنٍ واحد. أي أنّه جمع السلطة القضائية والتنفيذيّة اللتين هما دور الدولة الشرعيّة.
فهو مثلا لم يبلّغ جهة مسؤولة، أو يحتكم إلى موظف المترو، أو يتراجع حين قوبل بالرفض من الفتاة. هنا لجأ الرجل واعتمد على ما يمكن تسميته "المحكمة الشعبيّة" المدعومة بالسلطة الذكوريّة". تعمل هذه المحكمة وفق منطق:
أنا الأكبر سنًا فأنا الأعلم والأولي بالطاعة. أنا رجل رأيي يسود. هي امرأة فعليها الامتثال.
وهنا ينهار مفهوم أو مبدأ الدولة الحديثة، ويُستبدل بـسلطة العُرف، وهي أخطر من القانون لأنها غير مكتوبة وغير قابلة للطعن لأنها ثقافيّة والأخطر أنها تُمارَس بالضغط والفضح والتصوير.

هذه الواقعة لا تحتاج أن نلوم الرجل المسنّ بل أن نحلل المشهد فهو ممثل لهذه الثقافة المنتهكة للخصوصيّة، وهي ذكوريّة. ولا أن نسأل من مع ومن ضد.
ما نحتاجه هو التوعية بالحدود الشخصيّة في المجال العام. وتفكيك السلطة الذكوريّة غير المفوَّضة. وحماية المجال العام من أن يتحوّل إلى ساحة محاكمات شعبيّة.

المترو والمجال العامّ ليس قبيلة. هو فضاء مشترك، ومن لا يحتمل التنوّع فيه، فالمشكلة ليست في الجالسين، بل في تصوّره هو للمجتمع.

الأب جون جبرائيل الدومنيكانيّ