حنان فكرى
الأسر لا تنكسر فجأة، بل تتصدع بصمت، وأخطر البيوت تلك التى تبدو متماسكة من الخارج، بينما تنهار من الداخل: »بنت تشعر بأنها مقهورة، زوجان يعيشان تحت سقف واحد بلا حوار، أطفال مهملون، وعنف يكتب قواعد الحياة اليومية، وقضايا حساسة لا يجرؤ أحد على الاقتراب منها خوفًا من إثارة القلق. هنا يظهر دور الإعلام القبطى مع البيت المسيحى، ليس بوصفه مراقبًا من بعيد، ولا مهدئًا للأعصاب بنشرات مطمئنة، بل كبوصلة تشير إلى الطريق حين يضيع الاتجاه داخل البيوت.
ظل الإعلام القبطى حبرًا يشق صمت الأزمنة، ومساحة وعى، منذ صدور أولى المجلات القبطية فى القرن التاسع عشر، وعلى امتداد 150 عامًا، كان مرآة لتحولات الكنيسة والمجتمع، صوتًا يبحث عن مكان لائق للإنسان داخل وطنه، ويصوغ ذاكرة ممتدة بين الإيمان والهوية والثقافة. هذا الإعلام يقف اليوم أمام مهمة جديدة، هى الانتقال من حفظ التاريخ إلى مداواة واقع يحتاج إلى من يراه بصدق.
من أجل هذا الصدق احتشد أبناء الصحف والقنوات الفضائية ذات الطابع المسيحى، للاحتفال بيوم الإعلام والصحافة القبطية، فى دورته الثالثة تحت رعاية قداسة البابا تواضروس الثانى، الذى يولى الموضوع اهتمامًا بالغًا. الدورة الحالية حملت شعار»الإعلام القبطى والبيت المسيحى«، فى إشارة واضحة إلى وعى الكنيسة بما يمكن أن يساهم فيه الإعلام لمعالجة المشكلات الأسرية. بعد أن اعتلت أزمات البيوت مسرح شاشات ومنصات التواصل الاجتماعى، وهو ما دفع المتحدثين للربط بين وسائل التواصل الاجتماعى، وطغيان استخدامها ومساهمة إدمانها فى تفكك الأسرة.
وبدعوة كريمة من قداسة البابا حضرت فعاليات اليوم، ومع انتهاء الاحتفال بدأت التساؤلات تنبش فى قلبى: هل يمكن للإعلام والصحافة القبطية القيام بهذا الدور فى ظل الأسقف الهابطة والخطوط الحمراء التى فرضها علينا البعض؟ فالأسئلة التى تخص البيت المسيحى نفسه ما زالت تقال همسًا أو تحذف عند أول اختبار للنشر. هل تقتصر موضوعاتنا على النشرات المطمئنة لتسكت الأسئلة بدل أن تفتحها؟هل يمكننا الاقتراب من المناطق الملغومة؟ هل نملك الشجاعة لتسمية المشكلات؟ ولمواجهة الملفات الحساسة: »هشاشة مشاعر البنات، الفراغ العاطفى، الصمت الذى ينخر البيوت، قبل أن تتحول إلى أزمات لا يمكن إرجاعها؟ هل نجرؤ على الكتابة عن البنات اللواتى يهربن، لأن بيوتهن لا تسمعهن، والزيجات التى تستمر، لأن الخوف أقوى من الحقيقة، والبيوت التى تبدو مستقرة من الخارج، بينما تنكمش من الداخل تحت وطأة الصمت؟
جميعنا نعرف جيدًا ماذا ترددنا عن كتابته، وإذا كان للإعلام القبطى دور، فهو أن يخلع الغطاء قبل أن تنفجر الأزمة، أن يقترب من الوجع بدلاً من طرد السؤال، وأن يرى البيت المسيحى كما يعيش، وليس كما يحب أن يظهر. لأن بيتًا لا يواجه ضعفه، لن يحمى قوته. والصحافة التى لا تذهب إلى الجذر، ستظل تكتب عن بيت لم يعد موجودًا إلا فى الصور القديمة.
هذه الأسئلة تضعنى عند مفترق الطريق بين ما شهدته من احتفاء بما أنجز، وما أراه من تحديات تحتاج إلى شجاعة وإبداع مستقبلى يلزمه تفاصيل ترسمها خارطة طريق واضحة ومدعومة كنسيًا.فحتى يكون الإعلام القبطى أكثر من مجرد وسيط للمعلومة؛ وإنما مساحة دعم للأسرة تساعدها على الفهم وليس الإنكار،.يجب أن يتخطى مرحلة الوعظ، لتسليط الضوء على الهشاشات ، بدءًا من ثغرات التربية، والعنف الأسرى، والتخلى عن المسئولية، وصولاً إلى قرارات صعبة مثل الانفصال، وهذه ليست دعوة لفضح البيوت، بل لفهمها. وليس الهدف تأجيج الأزمات، بل إدارة الحوار حولها بحكمة. يأتى هذا الحوار عبر منصات تفاعلية قوية بأدوات وأدوار حديثة وقوى بشرية ضخمة يجب أن تكون مؤهلة نفسيًا ومهنيًا. كل هذا يجب أن يكون واضحًا فى تخطيط لرؤية تتجاوز فكرة الاحتفال باليوم إلى مائدة تجمع المعنيين على رسم سياسات التحرير فى مواقعهم، للوصول لوسائل دمج الرؤية المقصودة.
وبالرغم من أن البعض اختار اللجوء إلى مساحة مطمئنة تخدر الأسئلة بدلاً من أن تكشفها. نجد الواقع يفرض اليوم مقاربة مختلفة: صحافة تتعامل مع البيت المسيحى باعتباره منظومة اجتماعية تحتاج إلى تشخيص وعلاج، وليس إلى تجميل.وها هو قداسة البابا تواضروس ذاته يقود هذه المقاربة الجديدة.
لكن هذه المقاربة لا تتحقق إلا بالاعتراف بأن التغاضى عن بعض الملفات يزيدها عمقًا وخطورة: القاصرات اللواتى يقتادهن الفراغ العاطفى إلى أحضان الاستغلال، البيوت المفككة التى ترفع شعار »الاستمرار« فيما التصدعات تنهش جدرانها بصمت، العلاقات الزوجية التى تتحول ساحات للعنف النفسى والجسدى، وزواج يختفى تمامًا خلف ستار »العيب« و»السمعة«…هذه ليست قضايا أخلاقية مجردة، إنها ملفات أمن أسرى. والمفارقة أن تجاهلها هو ما يخلق المساحات التى يتسلل منها الاستغلال وتغيير القناعات تحت عباءة »الحب« أو »الاحتواء«.
لذلك أرى أن الصحافة القبطية إذا أرادت الاستحقاق فى القرن القادم، فعليها التخلى عن دور الصدى والعودة إلى دور الصوت، صوت الحقيقة، مهما كانت مؤلمة، ووضع يديها على الجذور:» التربية، الحنان، مساحة الإصغاء، طبيعة العلاقات الأبوية، أنماط العنف الصامت، وأين ينكسر الطفل قبل أن يبحث عن حضن خارجى.. إلخ«.فالحقائق وحدها هى القادرة على حماية البيت الذى نريد أن نحتفل به بدلاً من أن نبكيه.
نقلا عن وطنى





