بقلم: جمال رشدي
تحوّل ما يُعرف إعلاميًا بملف اختفاء القبطيات من وقائع فردية متفرقة إلى قضية عامة مثقلة بالشعارات والانفعالات، تُستدعى عند كل حادثة ثم تُغلق دون أن تُمس جذورها الحقيقية. فالمشهد يتكرر بذات الشكل والمضمون، وتتعاقب حالات الاختفاء والعودة، بينما يظل المجتمع أسير قراءة سطحية للظاهرة، منشغلًا بإدارتها لا بفهم أسبابها.

هذه القضية ليست دينية بالمعنى الضيق، ولا مؤامرة منظمة بالمعنى السهل، بل هي ملف اجتماعي نفسي مركب، تتداخل فيه عوامل تاريخية وضغوط معيشية وتحولات ثقافية، وسوء إدارة مؤسسية ممتد لسنوات. ومن الخطأ الجسيم الاستمرار في اختزالها داخل سرديات جاهزة تُريح الضمير ولا تُنقذ المجتمع.

في مراحل سابقة من تاريخ الدولة، ووسط مناخ سياسي وأمني هش، شهدت الساحة محاولات من جماعات منظمة لاستثمار بعض الهشاشات الاجتماعية والذهنية. غير أن إسقاط هذا الماضي على الحاضر بات نوعًا من العمى التحليلي؛ إذ لا توجد اليوم شواهد واقعية أو أدلة موضوعية على وجود مخطط ممنهج أو غطاء مؤسسي لاختطاف أو تغيير هوية أي مواطن. الدولة المصرية في واقعها الراهن دولة مركزية قوية، وأجهزتها السيادية لا تعمل بعقلية العبث ولا بمنطق التواطؤ.

الحقيقة التي يتجاهلها كثيرون أن الغالبية الساحقة من هذه الحالات تعود إلى أسباب اجتماعية وإنسانية واضحة؛ علاقات عاطفية نشأت في الخفاء، أزمات أسرية مزمنة، ضغوط اقتصادية ونفسية خانقة، وغياب آليات احتواء سريعة وفعّالة للخلافات الزوجية. وقد أسهم الانتشار غير المنضبط لمواقع التواصل الاجتماعي في تعميق هذه الأزمات، لا بوصفها شرًا مطلقًا، بل لأنها دخلت البيوت دون وعي ثقافي أو تأهيل نفسي، فخلقت عوالم بديلة، وأضعفت الحوار داخل الأسرة، وسهّلت الهروب بدل المواجهة.

وفي هذا السياق، لا يمكن تجاهل عنصر شديد الحساسية يهرب الجميع من الاعتراف به: ثقافة العار الاجتماعي. ففي كثير من الوقائع، يُعاد توصيف ما جرى على أنه «اختطاف» أو «اختفاء قسري»، لا بحثًا عن الحقيقة، بل هروبًا من وصمة اجتماعية قاسية. فالانتقال من دين إلى آخر، أيًا كانت أسبابه، لا يُنظر إليه داخل قطاعات واسعة من المجتمع بوصفه خيارًا فرديًا، بل كعار اجتماعي يلاحق الأسرة بأكملها، من الآباء إلى الأبناء، ومن الأحفاد إلى ما بعدهم. ومن هنا يصبح إنكار الواقع، واللجوء إلى سردية الاختطاف، آلية دفاع اجتماعية لتخفيف الوصم، وحماية السمعة، وتجنب المحاسبة المجتمعية القاسية، حتى لو جاء ذلك على حساب الحقيقة نفسها.

وفي ظل هذا المناخ، تراجع الدور الاجتماعي والرعوي للكنيسة لدى بعض الأسر، وتحول في أحيان كثيرة إلى دور طقسي بحت. ومع تعقيد إجراءات الطلاق، وطول أمد الحلول، تتحول الأزمة الأسرية إلى نفق مغلق بلا مخارج، فتبحث بعض السيدات عن خلاص فردي لا عن قناعة فكرية أو روحية. وفي كثير من الحالات، لا يكون إعلان تغيير الدين تعبيرًا عن اختيار عقائدي حر، بقدر ما يكون آلية للهروب من واقع ضاغط، أو مظلة حماية من الملاحقة الأسرية والاجتماعية، في ظل انسداد الأفق القانوني والإنساني.

وتزداد خطورة المشهد حين تتحول هذه الوقائع إلى فضاء مفتوح لتفريغ شحنات نفسية متراكمة لدى بعض الفئات، نابعة من اعتقاد راسخ — له أسبابه التاريخية والاجتماعية — بأنهم مواطنون من درجة أدنى، أو جماعة مغلقة لا تُعامل باعتبارها جزءًا أصيلًا من الدولة الوطنية. فيتحول الحدث الفردي إلى منصة إسقاط نفسي، وساحة صراخ جماعي، وتأكيد دائم لسردية مظلومية مُسبقة، لا بحثًا عن الحقيقة، بل لإعادة إنتاج الإحساس بالاغتراب والتمييز. وهذا أخطر من الواقعة نفسها، لأنه يصنع وعيًا مأزومًا قابلًا للاشتعال عند كل حادثة.

وفي قلب هذا المشهد شديد التعقيد، يتحمل جهاز الأمن الوطني ضغوطًا هائلة في إدارة هذا الملف، ويؤدي دورًا وطنيًا بالغ الحساسية، يقوم على الموازنة الدقيقة بين حماية السلم المجتمعي، وضمان سلامة الأفراد، ومنع انفجار الفتن، والحفاظ على تماسك الدولة. وهو دور يُمارَس في صمت وبحكمة، بعيدًا عن الاستعراض الإعلامي. وجاهل أو مغرض من يحاول الزج بهذا الجهاز الوطني كطرف في الأزمة، أو تصويره كخصم، بينما هو في الحقيقة أحد أهم صمّامات الأمان التي حالت دون انزلاق المجتمع إلى صدامات خطيرة.

غير أن الاكتفاء بالحلول الأمنية، مهما بلغت حكمتها، لا يكفي. فالصمت الرسمي الذي يُفرض بعد احتواء كل حالة، وإن كان مفهومًا بدوافعه، يترك فراغًا خطيرًا تملؤه الشائعات، ويستثمره إعلام معادٍ، ويتغذى عليه تجار الألم في الخارج. وقد نشطت بالفعل بعض الأصوات التي تتخذ من كل واقعة مادة للتدويل والتسييس، مدفوعة بأجندات سياسية وتمويلية، ويجدون — للأسف — صدى لدى بسطاء الداخل، فيتحول الدفاع عن الحقوق إلى هدم للثقة في الدولة والمجتمع.

إن الخروج من هذا النفق لا يكون بالصراخ ولا بتبادل الاتهامات، بل بتحرك وطني شجاع ومتزامن. على الكنيسة أن تُقدم مراجعة جذرية لقانون الطلاق، عبر لجان متخصصة بكل إيبارشية تضم رجال دين وأخصائيين اجتماعيين ونفسيين، تُصدر قرارات واضحة خلال مدد زمنية محددة، لأن الزمن الطويل في الأزمات الأسرية عدو للاستقرار. وعلى الدولة أن تنتقل من منطق الاحتواء إلى منطق الوقاية، عبر إنتاج رواية رسمية هادئة، وفتح نقاش مجتمعي عقلاني، وعدم ترك الفراغ السردي لمن يتاجرون بالخوف والمظلومية. كما أن تجديد الخطاب الديني، ليخاطب الواقع الاجتماعي والصحة النفسية ومخاطر العزلة الرقمية، لم يعد ترفًا بل ضرورة وطنية.

هذا الملف، إن تُرك دون معالجة جذرية، سيظل قنبلة موقوتة في خاصرة المجتمع، وأداة ابتزاز داخلي وخارجي. أما إن وُوجه بعقل بارد وشجاعة أخلاقية، فسيكون فرصة حقيقية لإعادة بناء الثقة بين المواطن، والكنيسة، والدولة.

القضية ليست من اختفى،
بل كيف نحمي المجتمع من أن يُدفع أبناؤه إلى الاختفاء أصلًا.