بقلم الأب يسطس الأورشليمى
قرر قسطنطين أن يهدي المسيحية السلام الذي طالما حرمت منه، ولذلك قام بإصدار منشور التسامح الديني، والذي قرر فيه أن لا يحرم أى واحد من الحرية لإختيار أو أتباع ديانة المسيحيين، وأن تعطى الحريه لكل واحد في إختيار الديانة التي يراها ملائمة لنفسه لكي يظهر لنا اللـه في كل شئ لطفه المعهود وعنايته المعتادة -حسبما ذكر قسطنطين بنفسه-  وبذلك منحت كامل الحرية للمسيحيين كي يمارسوا فرائض دينهم، وكذلك شمل هذا المنشور كل أصحاب الديانات الآخرى, وذلك ما عرف فيما بعد باسم مرسوم ميلان وكان هدف قسطنطين من ذلك أن لا يظن أنه متحامل على ديانة بعينها، ولكنه على وجه الخصوص أظهر رعاية خاصة للمسيحيين إذ أمر برد أماكن العبادة التي كانت مخصصة لهم والتي كان اليهود وعباد الأوثان قد أستولوا عليها أو حطموها، كما أمر هو نفسه ببناء 50 كنيسة على نفقة الدولة, وقد تمم أمره بقوله وفي كل هذه الأمور ومراعاة لمصلحة جماعة المسيحيين السابق ذكرهم أبذلوا اقصى جهدكم لإتمام أوامرنا بسرعة لأن بهذه الطريقة يتوفر لنا السلام وتستمر رحمة اللـه معنا دواما، ولكي يعرف الجميع تفاصيل أوامرنا الرحيمة هذه أرجو أن تنشروا مكتوبنا هذا في كل مكان وتعلنوه للجميع حتى لا تبقى أوامرنا الرحيمة هذه مجهولة عند أي امرئ، كذلك أمر برد كل الأموال التي أستولى عليها الوثنيين أو اليهود من المسيحيين منتهزين فرصة الإضطهاد إلى أصحابها أو إلى الكنيسة، كذلك أمر قسطنطين بسرعة عقد مجمع للأساقفة في روما من أجل وحدة الكنائس وائتلافها ومجمع آخر لازالة كل المنازعات بين الأساقفة، كذلك أمر بمنح الكنائس في كل أقطار أفريقيا ونوميديا وموريتانيا أموال لتساعدهم على بناء البيع ومساعدة المؤمنين، كما أمر بإعفاء رؤساء الكنائس من الواجبات السياسية أى العامة حتى يتفرغوا للخدمة للـه ويكرسوا أنفسهم لشرائعهم فالأمر ظاهر أنهم عندما يقدمون الأكرام العظيم للـه يشمل الدولة الخير العميم حسب قول قسطنطين نفسه .

     بعدأن توفي الإمبراطور مكسميانوس سنة 314م. أنتهى زمن الإضطهاد وصار السلام للكنيسة، وفي ذلك الوقت أصدر الإمبراطور قسطنطين ولكينيوس أمر بحرية الأديان وخصوصا للديانة المسيحية، فتحسنت الحالة وساعدت على إنتشار الدين المسيحي وتمتعت الكنائس بالراحة اللذيذة بعد تلك المتاعب والمشقات ووصلت سفينة الدين المسيحي ظافرة إلى ميناء الحقيقة الآمين، فتبدل كل شيء وتغير في الشرق والغرب فأن المسيحيين الذين كانوا محتقرين ومعدودين كسقط المتاع والذين كانوا يعرضون للعذابات والموت بأشكالها وأنواعها قد نالوا الأن حقوقهم وتمتعوا بحريتهم فنقضت القوانين الجائرة المجيزة الضغط على المسيحيين وضبط ممتلكاتهم وأعيد ما كان مغتصبا منها إلى أربابه، وفتحت أبواب السجون فخرج منها جميع المحكوم عليهم بالسجن لإعتقادهم المسيحي والذين كانوا مبعدين أعطيت لهم الحرية بالعودة كل إلى وطنه.

وقد ذكر التاريخ في تلك الفترة أساقفة في الاراضى المقدسة للمدن الآتية: (وجميعهم حضروا المجمع المسكوني الأول) أسقف قيصرية، نابلس، جديرة، اشقلون، نيكوبوليس، عمواس، ايمنيا أويمنيا، الفتروبوليس. (هي الان بيت جبرين على بعد 12 ميلا إلى الغرب من الخليل وفي منتصف الطريق بين القدس وغزة عرف هذا المكان أيضا ببيت جبرا وفي الكتاب المقدس سمي جت) غزة، كابيتوليلس، آيلة ثم أورشليم، أن كثرة هذه الأساقفة لا يعزى لكثرة عدد المسيحيين في ذلك الوقت، بل كانوا يقيمون لكل جماعة أسقفا بدون إعتبار عدد الأنفس، يمكننا أن نعلم أية مدن كانت تحوي العدد الوافر من المسيحيين من التاريخ المبين وقائع الإضطهاد، فمن هذه المدن أورشليم ( إيليا ) سبسطيا، لد، أو "ديوسبوليس" سارون، عمواس أو نيكوبوليس، شكيم أو نابلس، سكيثوبوليس، مكسيميانوبوليس، أريحا، زابولون، يمنيا، اشدود، آيله، جديرة، كابيتولياس، بيت لحم، اينو، باتير، اينم، بيت عنيا سوخار، بيثينيه، وفنون.
وإن كان عدد مسيحي الاراضى المقدسة قليلا غير أننا، مما تقدم نرى أن الدين المسيحي كان منتشرا في جميع مدن الاراضى المقدسة وقراها تقريبا، وقيصريا كانت مركزا لرئاسة الكنيسة، أما أورشليم ( إيليا) فقد كانت وقتئذ قرية صغيرة وأسقفها كان تابعا لمطروبوليتية قيصرية، ولا إعتبارا لما كنا نراه من تقدم أسقف أورشليم بعض الأحيان في المجامع على البقية.

في ذلك العهد قام على كنيسة أورشليم أسقف هو القديس مكاريوس الأول، وكان رجلا صالحا وحصل على إعتبار عظيم من الكنائس أجمعها لما ظهر منه من الغيرة والمدافعة ضد بدعة أريوس في المجمع المسكوني الأول الذي عقد في نيقية عاصمة بيثينية ( ولاية في شمال آسيا الصغرى على شاطئ البحر الأسود ) وهو الواضع المادة السابعة من قوانين هذا المجمع التي بسبها نال شأنا عظيما حتى أنه صار يعد رئيسا لأساقفة الاراضى المقدسة، وهذه المادة هي التي تبحث عن درجة الإعتبار لكل من أساقفة الاراضى المقدسة، وهكذا بلغت كنيسة أورشليم المركز الذي تستحقه بين الكنائس حتى لقبت بحق " أم الكنائس" فيما بعد. 

على ما يفهم من التاريخ أن القديس مكاريوس في وقت إجتماع الأساقفة في المجمع الأول المسكوني سنة 325 بأمر من الإمبراطور قسطنطين العظيم هو الذي بين لهذا الإمبراطور أن الأماكن المقدسة موجودة مطمورة وقائم عليها هياكل وثنية، الأمر الذي كان يثير عواطف المسيحيين فتلتهب حقدا وأسفا فأسف الإمبراطور جد الأسف وقرر بالحال إرسال والدته التقية القديسة هيلانه إلى أورشليم لإظهار هذه المقدسات وتطهيرها من أرجاس الأوثان، وهكذا سنة 326 حضرت هذه القديسة إلى أورشليم وترأست العمل العظيم في تاريخ كل مسيحي وهو التفتيش على آثار المقدسات المسيحية، فنجحت نجاحا باهرا كان كمكافأة لها على غيرتها فوجدت المغارة التي ألقيت فيها الصليب والجلجلة ومحل القبر الخلاصي ثم أرسل البطريرك مكاريوس نصف خشبه الصليب للملك وكان سروره بها لا يوصف وأرسل يأمر بأن تشاد كنائس فخمة فوق هذه الأماكن وكتب بذلك للقديس مكاريوس لأولياء الأمور في الاراضى المقدسة، فبوشر حالا بإقامة الكنائس وتولت القديسة هيلانه بنفسها أمر مراقبة بنائها وفقا لرغبة الملك، وهكذا لم تمض مدة وجيزة حتى قامت كنيسة القيامة العظمى فوق محل الصلب والقبر المقدس، وكنيسة أخرى في بيت لحم فوق المغارة التي ولد فيها السيد المسيح، وكنيسة ثالثة في العلية الصهيونية، ودعيت باسم الرسل الأطهار، وقد أنشأ الملك قسطنطين عددا من هذه الكنائس وكنائس كثيرة غيرها في أنحاء الاراضى المقدسة، مثل كنيسة الرعوت بالقرب من قرية بيت ساحور ( إلى شرق من بيت لحم تبعد عنها نحو الميل)، وكنيسة في الخليل حيث مدافن البطاركة إبراهيم ويعقوب واسحق ويوسف، وفي بين عنيا وجبل الزيتون على محل الصعود وفي الناصرة وطبريا وفي قنا الجليل، وشكيم وبيت صيدا وجبل طابور، وفي أماكن أخرى غيرها.