شريف البدري
في الزمن الغابر هجرت جماعة من البشر، الصحراء القاسية وشقت طريقها إلى الوادي فبشرت بسر الحياة وقدس أقداسها الأول إنه النهر العظيم هبة الله للأرض الطيبة.
غرسوا على ضفتيه فردوساً أخضر وامتزج عرقهم بمياهه،
سكنوا متى سكن؟
وثاروا إذا فاض وزئر
كان النيل هو المعلم الأول لهؤلاء البشر فهو كتاب ينطق في صدورهم، بقيم الوحدة السامية والتكافل الإنساني،
والتضامن الابدي.
لقد صهرهم النيل أمة واحدة متماسكة عريقة يدفعهم برياحه إلى الجنوب ويجري بهم منحدراً نحو الشمال،فيضم واديه لدلتاه ويصل شماله بجنوبه..
-كما عززت جغرافيتها شخصيتها الفريدة، حيث أنها قلب البسيطة القديمة (أفريقيا وآسيا وأوروبا).
-ويجري بحريها الأحمر والمتوسط كشريان حياة يصل
عمرانها بكل الأرض، كانت الأمة في تكوينها الأول معلمة لذاتها صانعة للمدنية بأصالتها الأولى.
-ومن إشعاع شمسها المشرقة نبتت أجساد أبنائها صلبة فتية، وثارت في دمائهم الحمية للعمل والسعي والبناء فاكتملت ثلاثية(المناخ والجغرافيا والنهر).
ومن صلب إرادتهم وحسن بديع صنعهم إنطاع لهم الحجر، فنحتوه ونقشوا عليه ورسموا وشيدوا المعابد والاهرامات ورفعوا المسلات فكانت الأمة الأولى التي أنطقت الحجر ومهدت كتابتها لميلاد التاريخ.
هي الأمة الأولى المتجانسة الأعراق والسمات، بَنَت ذاتها بذاتها منذ القدم.
- لقد ولدت الأمة قبل أن تولد الدولة، فما الدولة إلا جسد والأمة روحا تسرى فيه.
فما ضرّها أن وحدها ملك في اون هليوبوليس (عين شمس ٤٢٤٢ق. م)! ثم تنقسم مملكتين شمال وجنوب، أو أن يؤسس وحدتها الأولى مينا (نعرمر) ٣٢٠٠ق.م.
في (من نفر) ميت هينة الجيزة حالياً فلولم يكن مينا لكان غيره.
ربما كان زوسر(صاحب الهرم الأول في التاريخ)
او سنفرو(الملك المحسن المحبوب كما سماه المصريون القدماء)، وربما كان سنوسرت الثالث(صاحب اول قناة مائية في التاريخ)، إن ولادة الأمة متماسكة على جغرافيا حيوية قد حتم ولادة الدولة.
ولقد عول الكثيرون على مركزية الدولة، وغاب عنهم أن مركزية الدولة لم تنشأ من نظام الري والزراعة بدايةً، إنما منشأها الأصلي هو مركزية الجسد والهوية والروح، فهي وليدة الاختيار والنزعة والوجدان وليست وليدة الأضطرار والضرورة.
كما أن الدين قد غذي وجدان الأمة وأينع ضميرها وأوقد قوميتها
وإذا كان هيرودوت يرى أن المصريون هم أتقي الأمم فإن الدين للأمة المصرية، ليس كما هو الدين لأي دولة أخرى فهو منصهراً في بنيانها الثقافي القومي، ينصاع لها في رفق وأعتدال وهوادة، لا ينازع هويتها فالدين ووحدتها صنوان يدفعان إلي إستقلالها من الغاصب الذي تلعنه السماء، والأمة تعلو بهويتها ولا يعلو هو عليها.
-لقد سقط شهيد الأمة الأول سقنن رع مستبسلاً في معركة التحرير مقاتلاً الرعاة (الهكسوس) ثم سقط ابنه الأكبر كامس حتي ظفر بطلها الصغير أحمس بالنصر مسترداً
مجد الأمة التليد.
-كما كانت ثورة١٩١٩م وزعيمها الذي رسمت مسيرته ملامح الأمة (سعد زغلول) هو ابن الأمة الذي قضى طفولته في القرية وانتقل منها إلى حواضر المحروسة.
مر في صباه بالأزهر ووعي عقله في صالوناتها الثقافية، توحد بروحه مع فقرائها فأدرك بوجدانه طبقاتها الشعبية التي هي ملح الأرض خاض انتخابات البرلمان عن دوائرها الشعبية في القاهرة.
-قدم حياته قرباناً لوطنه ففي ريعان شبابه نكل به الانجليز لانضمامه للثورة العرابية وبعد طول زمن لم تشفع له كهولته فنفاهُ الإنجليز إلي أقاصي البحار مرتين
(جزيرتي مالطة وسيشل)
لقد بعث الأمة من رقاد في لُحمةً واحدة بكل تكويناتها وطبقاتها وطوائفها المتبانية، فعانق هلالها صليبها وألهبت بنيرانها الثورة.
-كما فجرت فيها طاقات الحياة والابداع من فنون واعمال وسياسة فظهر( مسرح الكسار وموسيقى سيد درويش واقتصاد طلعت حرب) كما خرج للوجود دستورها الليبرالي الأول دستور(١٩٢٣)الذي أقر المواطنة والمساواة بين أبناء الوطن،
إن هذه الأمة تتفجر طاقتها كما تتفجر ينابيع المياه في صحراء قاحلة يحركها وجدانها كأمة واحدة، هي في غليان مستمر، تتمرد بعد خضوع وتهب بعد سكون وهي مرمية بسهام عدوها ليل نهار، تجدد شبابها مع كل كفاح وهَبّة.
إن الأمة تتلون عبر حقب التاريخ بشتى ألوان الحكم تبعاً لظروفها السياسية تستبدل أفكارها القديمة لكن هويتها تبقى واحدة وغالبة.
في العصور الوسطى سكنت المسيحية مصر،فمصرت الأمة فنونها وفلسفتها وتعاليمها الدينية وابتدعت الرهبنة.
ثم اتخذت العرب أداتها للتخلص من الرومان وهضمت العربية فأضحت مصرية الثقافة واللون والميول،
كما في العصور الحديثة (كما في الشعر والأدب والرواية والمسرح).
-وحينما حكم الولاة الأمويون و العباسيون من خلافة سنية،والفاطميون من خلافة شيعية جالوا في مصر وصالوا بيد أنهم لم يخرجوا عن إطار مصري محدد بطبائع الأمة.
لقد عاشت البلاد في استقلال صوري تارة (الدولة الطولونية والاخشيدية)، واستقلال حقيقي تارة أخرى (الدولة الفاطمية - المملوكية) لكنها بقيت في كل أحوالها
دُرة التاج وعقل الدولة الجامع.
-وربما كان فقر الأمة وجدبها وشقائها ما يدفعها للوحدة ويزكي روحها القومية فهي في الشدة المستنصرية بعدما انخفض منسوب النيل واضطرب أمنها وضعف سلطانها وهلك الاهالي في الطرقات وأكل الجياع جيف الحيوانات.
أخضعت الأمة نفسها لغريب عنها(بدر الجمالي) حاكم عكا،
ليقيم ميزان الأمة ويسترد جبروت سلطتها ويغيثها من هلاك.
إن خوف الأمة من الهلكة وصراعها للوجود ينفخ في روحها الخلود كالجرح يلتئم مستكملاً دورة الحياة.
ولقد رأي محمد علي في هذه الأمة مالم يره سواه رآها أمة قادرة، منتجة متطلعة إلي عنان السماء، فأطلق مشروعه النهضوي ومَّدن تعليمها ونظم إدارتها وسلح جيشاً من فلاحيها، غزا به الدولة العثمانية نفسها.
-لكنه غامر بحلم الأمة في بحور اليونان المجهولة(حرب المورة) مما أيقظ الخوف الأوروبي من إمبراطورية مصرية عربية توشك بالكاد أن تشرق شمسها ما أرادات أورربا لها من ميلاد، فضربتها ضربة الموت في معركة نفارين البحرية ١٨٢٧م وخسفت بحلمها الأرض في في معاهدة لندن ١٨٤٠م ومزقت الامبراطورية الوليدة فأجبرته على تسليم الشام وشبه الجزيرة العربية للسلطان وفتح أسواقه لمنتجاتها.
لقد رسمت أوروبا سياستها نحو الدولة العثمانية ومحمدعلي في (أن يضرب كُلاً منهما الآخر دون أن ينتصر أحد(فرق تسُد).
كان الدرس الأكبر من تجربة محمد علي أن الأمة تمتلك أدوات البناء والنهضة الحديثة وأن سواعد أبنائها تصنع المعجزات وعقولهم تعرف طريق النور مهما تداعت الأمة في مظاهر الانحلال والرجعية والوهن.
لقد استوعبت بعثات محمدعلي ألي أوروبا شتى الفنون والعلوم الحديثة (رفاعة الطهطاوي - على مبارك) وأبرزت النابهين الذين أضحوا نواة نهضتها الحديثة طيلة القرن التاسع عشر الميلادي كذلك فعلت المدراس العُليا(الطب - الزراعة - المهندسخانة).
-إن الأمة لم تعدم حظها ابداً من العبقرية والنباهة والابداع فهي جينات متوارثة (إيمحوتب- بتاح حتب-إنيني-مريت آتون-أفلوطين-مانيتون).
-لكن واحدة من أزمات تلك الأمة أنها سلمت مفاتيح نهضتها لغيرها ، وهو ماظهر في حكم عباس الاول وماشهده من تراجع وإنغلاق في كل مظاهر الحضارة ثم تبعه إصلاح جزئي في حكم سعيد باشا ثم انفتاح أكبر في حكم الخديوي إسماعيل ويوشك إسماعيل أن يفتح أبواب الحياة لحلم الأمة في الإصلاح والنهضة بعدما أغتيل في معاهدة لندن؛ لولا انه هوي في فخ الاستدانه.
إن من خيبات الأمة و أزماتها التاريخية أنها سلمت مفاتيحها لايادي ليست أياديها وأوكلت أمرها لسواها وترضى ألا يكون لها من الأمر شئ، إن حركتها مأسورة بظروف وعوامل جغرافيه وإجتماعية وثقافية متشابكة ومعقدة وهو ما أسقط مشروعها للنهضة والبعث، ودفعها للتراجع مرات ومرات (إلى الخلف فالخلف) فتراجعت ورضيت واستكانت
لقد ألقت الحركة الاستعمارية لاوروبا بظلالها السوداء على البلاد و نقلا قطبي أوروبا (أنجلتروفرنسا) صراعهما إلى مصر، فأضحت قناة السويس قلب الصراع الجديد
(مشروع السان سيمونين)، كما أن النفوذ الأجنبي كان أطغي من أن يتصدي له أحد من من خلفاء محمدعلي الذين ثقب لم يبلغوا فطنة هذا العجوز الحكيم وحساسيتة من النوايا الأوربية تجاه مصر،وتسلط الأجانب على رقاب الاهالي تغلغلوا في إدارتها وتملكوا الأصول في حواضرها وأريافها وتغلب الشركس داخل الجيش، فكانت الثورة العرابية والحركة الوطنية التي رفعت راية الامة بالدماء والعرق والدموع
صارخة………مصر للمصريين..
للكاتب الاستاذ /شريف البدري





