الأب يسطس الأورشليمى
وظلت العاصفة هائجة ضد المسيحيين، وقبل هذا الوقت كان هنالك عدد وافر جداً من المعترفين بالإيمان في المحجر الذي يسمى بروفيري بطيبة، والذي اشتق اسمه من الحجارة الموجودة هناك، من بين هؤلاء أرسل للوالي بالاراضى المقدسة سبعة وتسعون رجلاً مع النساء والأطفال، ولما اعترفوا بإله الكون وبالمسيح أمر فرمليانوس، الذي كان قد أرسل إلى هناك والياً مكان أوربانوس، بأن يتم تعجيزهم بحرق عضلات مفصل القدم الأيسر، وأن تقلع العين اليمنى ثم تحرق حتى القاع بقضبان حديدية محماة، وهذا بناء على تعليمات الإمبراطور، وبعد ذلك أرسلهم إلى المناجم في ذلك الإقليم، ليعانوا مشقة العمل القاسي، والآلام العنيفة.
 
على أنه لم يكتف بأن يعاني هؤلاء فقط تلك الآلام بحرمانهم من أعينهم، بل امتد طغيانه إلى أهل الاراضى المقدسة أيضا، الذي سبق أن ذكرنا أنهم حكم عليهم بمصارعة الوحوش وقضى بعدم تقديم أي طعام إليهم من المخازن الملكية.
 
واشترك معهم معترفون آخرون في مدينة قيصرية إذ أبدوا ثباتاً عجيباً جداً في إعترافاتهم بتحمل الجوع والجلدات العنيفة، نالوا قصاصاً مماثلاً لأولئك السابق ذكرهم ولكن بعد ذلك بفترة وجيزة، عانى مائة وثلاثين بطلاً من أبطال الإعتراف بالمسيح، وكانوا من أرض مصر، نفس الآلام في أقدامهم وأعينهم مع  الأشخاص السابقين، وذلك في مصر نفسها، وبأمر مكسيمينوس، ثم أرسلوا إلى المناجم السابق ذكرها في الاراضى المقدسة، ولكن بعضاً منهم حكم بالشغل في مناجم كيليكية .
 
الشهــيد سلـوانس  : 
في مدينة قيصرية في التاسع من شهر نوفمبر، حُكم على سلوانس، الذي كان وقتئذٍ قساً ومعترفاً، والذي أكُرم بالأسقفية بعد ذلك بقليل، ثم مات شهيداً، حُكم عليه ومن معه من الرجال الذين أظهروا منتهى الثبات دفاعاً عن الإيمان، بالشغل في نفس مناجم النحاس، بعد أن صدر الأمر بتعجيز مفصل القدم بكيه بالنار.
 
الشهـيدان دومنينـوس وأوكسنتيوس :
وفي نفس الوقت سلم إلى النار رجلاً اشتهر بإعترافات أخرى كثيرة، هذا هو دومنينوس، الذي كان مشهوراً بين جميع من بالاراضى المقدسة بسبب جرأته الزائدة، بعد ذلك دبر نفس القاضي - وكان قاسيا فيما يدبره من تعذيب، ومخترعاً للمؤامرات ضد تعاليم المسيح -  ضد ذلك الرجل التقي أنواعاً من القصاص لم يسمع بها قط، هذا حكم على ثلاثة بملاكمة الوحوش أنفرادياً، ثم سلّم أوكسنتيوس للوحوش لالتهامه، وكان شيخاً وقوراً، وخصى أشخاصاً آخرين في مقتبل العمر، ثم حكم عليهم بالشغل في نفس المناجم وطرح آخرين في السجن بعد تعذيبهم بقسوة .
 
الشهــيد بمفيـاوس :
بمفياوس الذي كان أشهر شهداء عصرنا بسبب تحليه بكل فضيلة وقد أستشهد بعد أن نال عذابات واسعة، وقد اختبره أوربانوس أولاً في الخطابة والفلسفة، وبعد ذلك حاول إلزامه بالذبح للأوثان، وإذ رأى أنه رفض، ولم يبال بتهديده بأي حال من الأحوال، احتدم غضبه وأمر بتعذيبه.
 
وبعد أن أشبع ذلك الوحش رغبته بهذه التعذيبات بكشط جنبيه بصفة مستمرة وغطاه الخزي أمام الجميع، دفعه في السجن مع باقي المعترفين.
 
أما القصاص الذي سوف يناله من العدل الإلهي ( يقصد الوالي )، ذلك الذي أساء إلى شهداء المسيح، من أجل قسوته على القديسين، فيمكن إستنتاجه بسهولة من مقدماته التي بها حل عليه القصاص الإلهي في الحال، بعد فترة قصيرة من قساوته الشنيعة ضد بمفياوس، وكان لا يزال في الحكم، لأن ذلك الذي كان بالأمس فقط يقضي في المحكمة العليا، تحرسه ثلة من الجند، ويحكم على كل أمة الاراضى المقدسة، والذي كان نديماً وصديقاً حميماً للطاغية في الوقت نفسه، وجليسه على المائدة، جرد من رتبته فجأة في ليلة واحدة، وغطاه الخزي والخجل أمام من كانوا سابقاً معجبين به، كانه هو الإمبراطور، وأظهر منتهى الجبن والخنوثة، وصار يصيح كامراة، ويقدم التوسلات لكل الشعب الذي كان يحاكم أمامه، أما مكسيمينوس نفسه، الذي كان أوربانوس يفتخر بوقاحة بمحبته له، لأنه قد أحبه بسبب إساءته لنا، فقد جلس في قيصرية نفسها قاضياً في منتهى القسوة، وحكم عليه بالموت من أجل الجرائم التي ثبت إدانته بها.
 
ويكفي أن نَّمر على هذه مر الكرام، وقد يأتي اليوم الذي يتسع فيه الوقت للتحدث عن نهاية ومصير أولئك الفجار الذين حاربونا، أي مكسيمينوس نفسه ومن معه .
 
الشـهيـدة أكــوبلينــا :
 في الاراضى المقدسة تربت هذه القديسة الصغيرة في عمرها، الكبيرة في محبتها وإيمانها بالرب يسوع، ولما بلغت من العمر اثنتي عشر عاماً تقدمت إلى الإمبراطور دقلديانوس وبشجاعة الأبطال إعترفت أمامه بالسيد المسيح، الأمر الذي أُذهل هذا الطاغية بسبب صغر سنها وعمق إيمانها وتمسكها بمسيحها، وقد أخذت هذه الشهيدة شهرة واسعة في الشرق في العصور الأولى.
 
أمر القاضي فوليوسان بتعذيبها، وقد تفنن في تعذيبها نظراً لتمسكها بإيمانها وشجاعتها، فأمر بتسخين مثاقب حديدية توضع في أُذنيها، وأثناء ذلك رفعت القديسة قلبها إلى اللـه قائلة: " أيها الرب يسوع المسيح الذي أهتم بي منذ طفولتي وأنار أفكاري الداخلية ببهاء عدله، يا من تثبتني بقوتك فأحارب العدو المقاوم إبليس، يا من تهب كل مؤمنيك الحكمة الحقيقية العالية، كمل جهادي وأحفظ سراج بتوليتي لكي أدخل الكمال مع الخمس عذارى الحكيمات"، ولما وضعت المثاقب في أُذن القديسة تألمت كثيراً حتى صارت شبه ميتة، فوضعوها خارج ساحة القضاء.
 
وقد كان اللـه مع هذه القديسة فلم يتركها بل أعطاها القوة والنصرة، فقد أضاء المكان بنوراً عظيم، وإذ برئيس جند الرب ينزل ويرشم القديسة، ويتمجد اسم اللـه أمام الحاضرين ويعلم الوالي بذلك.
 
وأخيراً أمر القاضي بقطع رقبتها بحد السيف، فنالت إكليل الشهادة، هكذا أعطت القديسة أمثولة حية لهذا الجيل في التمسك بالإيمان والشجاعة والثبات والصبر على آلام هذا الزمان، حتى نصل إلى الأكاليل السمائية.
 
الشهـــيدة ثيـؤودوسـيا : 
عرض لنا يوسابيوس القيصري قصة إستشهاد كل من ثيؤودوسيا وأبيفان  أثناء حديثه عن شهداء الاراضى المقدسة، إذ كان متأثراً جداً كشاهد عيان لعذباتهما، وأيضا لصغر سنهما، إذ كان أبيفان في حوالي العشرين من عمره بينما ثيؤدوسيا في الثامنة عشر من عمرها (كان ذلك في عام 308م).
 
يقول يوسابيوس، وفي قيصرية أيضا عندما أستمر الإضطهاد إلى السنة الخامسة، في اليوم الخامس من شهر أبريل، في نفس يوم الرب، يوم قيامة مخلصنا، صعدت فتاة عذراء تسمى ثيؤدوسيا من أهل صور
 
، وهي فتاة رزينة مؤمنة لم تكتمل الثامنة عشر من عمرها بعد، صعدت إلى بعض المسجونين الذين كانوا يشهدون لملكوت المسيح وجلوسهم أمام كرسي القضاء، وحيّتهم ورجتهم أن يذكروها عندما يمثلون أمام الرب،
 
وللحال ألقى القبض عليها، وساقوها إلى الوالي وكأنها إرتكبت فعلاً شائناً، أما هو فسرعان ما أنقض عليها كمجنون أو كوحش مفترس في هيجانه، وعذبها تعذيباً مبرحاً في جنبيها وثدييها حتى وصل إلى العظام، وإذ كانت تتردد فيها الأنفاس، واقفة بوجه بشوش بالرغم مما تكبدته، أمر بطرحها في أمواج البحر، ولما فرغ منها أنتقل إلى المعترفين الأخرين، وأمر بتشغيلهم جميعاً بمناجم النحاس في فينو بالاراضى المقدسة .