الأب جون جبرائيل الدومنيكانيّ
«أيّها الحاكم على كلّ مَن فني ومن لم يفنَ،
إذا ذهبتَ إلى بحر العدل، فإنّ الهواء لن يمزّق قلعَك،
ولن يتباطأ ﻗﺎربُك ولن تُكسر لك مَرسى
ولن يحملك التيار بعيدًا،
ولن ترى وجهًا مرتاعًا،
ذلك ﻷنك ﺃﺏٌ لليتيم،
ﻭﺯﻭﺝ للأرملة،
ﻭﺃﺥ للمنبوذ،
ﻭﺭﺍﻉٍ لمن ﻻ ﺃﻡ له.»
تُعدّ قصة الفلاح الفصيح من أهمّ النصوص الأخلاقيّة في تراث مصر القديمة، وتنتمي إلى عصر الدولة الوسطى (2040–1782 ق.م.). ووصلت إلينا من خلال برديّات أربع رئيسة: برديّات ثلاثة في برلين 3023 (B1)،و 3025 (B2)، و 10499 (R)، وبرديّة بتلر 527 (المتحف البريطاني 10274).
كلّ نسخة بها نقصٌ، ولكنّ مجموع النسخ يقدّم نصًّا شبه كامل يضمّ نحو 430 سطرًا.
تكشف القصة عن رؤية متقدّمة للعدالة، ومكانة الإنسان، ودور السلطة، وعلاقة الخطاب الأخلاقي بالواقع الاجتماعي.
ملخّص القصّة
يسافر فلاح فقير اسمه خون–أنوب إلى السوق ببضائع ثمينة. يمرّ عبر أرض مالك أراضٍ غنيّ يُدعى نمتيناخت، فيضع الأخير له فخًّا محكمًا ليستولي على حميره وبضاعته، ثم يضربه ويأمره بالصمت، بدعوى أنّ أحدًا لن يصغي لفقير أمام صاحب سلطة.
تُظهر البرديّات أنّ المؤلف كان مهتمًّا بتقديم صورة دقيقة عن هشاشة الفلاح أمام سلطة النخب في مصر القديمة.
الذهاب إلى العدالة: يرفض خون–أنوب الخضوع للظلم، ويتّجه إلى كبير القضاة رنسي بن ميرو. والفلاح، يستخدم خطابًا شعريًّا فصيحًا يذكّر القضاة بالعدالة، وبالعيش وفق “ماعت”: مبدأ الانسجام والحقّ الذي يقوم عليه العالم في الرؤية المصريّة القديمة.
يرى رنسي بلاغة الفلاح، فيرفع أمره إلى الملك. وهنا تظهر مفارقةٌ عميقة في جميع المخطوطات:
يأمر الملك بإطالة الظلم، لا رفعه، لكي يُسمح للفلاح بإلقاء مزيد من الخطب، وتُكتب كلها في سجلات القصر.
فيظلّ الفلاح يطلب العدالة مراتٍ تسعًا، تُدوَّن كلها، فيما القاضي يلتزم الصمت عمدًا. هذه المفارقة، الموثقة بوضوح في بردية برلين 3023 و3025، ليست عبثية، بل تشير إلى حقيقة فلسفية في المجتمع المصري القديم: العدالة ليست مجرّد حكم، بل تعليم وحكمة تُورَّث.
استعادة التوازن
بعد تسجيل خطب الفلاح، يأمر الملك في النهاية بما يلي:
محاسبة الظالم،
تعويض الفلاح كاملاً،
ومصادرة أملاك نمتيناخت لصالحه.
كما تُظهر المخطوطات أنّ الملك كان يُرسل سرًّا الطعام والشراب لأسرة الفلاح طوال هذه الفترة، لكي لا يُظلَم ظلمًا مطلقًا.
القصة ليست قصّة ظالم ومظلوم فحسب، إنها درس في طبيعة العدالة في الحضارة المصرية. فالعدالة ليست فقط قرارًا قضائيًّا، بل توازن وانسجام ومطابقة بين فعل الإنسان ونظام الكون.
ثانيًا: قيمة الإنسان بما هو ناطق بالحق، فالفلاح، وإن كان فقيرًا، يُعامَل علي أنّه حامل للحكمة، ويُستمع إليه لأنّ منطقه مستقيم. هنا تبرز قيمة الإنسان بوصفه صاحب كلمة وضمير.
ثالثًا: السلطة تُحاسَب بخطاب الحقّ
الملك نفسه يُستدعى إلى المساءلة الأخلاقية عبر خطب الفلاح.
النصّ يكشف أنّ الحقّ قوّة يمكن أن تواجه أي سلطة.
رابعًا: العدالة تحتاج وقتًا… لكنها لا تغيب. تأخير العدل ليس نفيًا له في منظور النص، بل إدراجُه في سياق أكبر: تعليم المجتمع معنى العدالة، لا مجرّد إصدار حكم.
إنّ قصة الفلاح الفصيح هي نصّ تأسيسي لفهم: مفهوم العدالة في الحضارات القديمة. والعلاقة بين الأخلاق والسلطة. وقدرة الإنسان المهمّش على تحويل الألم إلى كلمة نبوية، وأهمية الخطاب الأخلاقي في تشكيل الضمير الجمعيّ.
إنها قصة “لاهوت العدالة” قبل الأديان التوحيديّة، حيث الكلمة الحقّة أعظم من السلطة، والعدالة هي الطريق إلى الانسجام الكوني، وفي النهاية، الفقرليس مانعًا من حمل الحكمة.
الصورة هي لبردية من برديات القصة، المتحف البريطاني.
المراجع أضغط هنـــا
الأب جون جبرائيل الدومنيكانيّ





