محرر الأقباط متحدون
أطلقت المبادرة المسيحية الفلسطينية المسكونية، أمس الجمعة في مؤتمرها السادس عشر بمدينة بيت لحم، وثيقة كايروس فلسطين الثانية تحت عنوان "لحظة الحقيقة: الإيمان في زمن الإبادة". وقدّم البطريرك ميشيل صبّاح، مؤسّس مبادرة كايروس فلسطين، عرضًا لاهوتيًا مركّزًا من قلب الألم الفلسطيني، ما جعل كلمته محورية في رؤية الوثيقة ورسالتها.
البطريرك صبّاح ورسالة الإيمان والحرية
في مداخلته، عبّر البطريرك صبّاح عن إيمانه العميق بأن "أملنا ما زال متأصّلاً في الله، ومتجذّرًا في الأخوّة والطيبة الموجودة في العالم"، معترفًا بأن السنوات التي أعقبت غزة فرضت سؤالاً لاهوتيًا جديدًا: "ماذا بعد غزة؟ أي لاهوت بعد غزة وبعد واقع الإبادة فيها؟".
وأشار صبّاح إلى ما رآه في غزة من مآسٍ، موضحًا: "لقد رأينا في غزة ما رأيناه، وكشفت لنا الأيام نوايا الموت والإبادة". وأضاف بأن هناك من يقول للفلسطينيين صراحة: "أنتم … لا يجوز أن تكونوا هنا؛ إمّا الرحيل أو الإبادة"، لكنه ردّ بهمزة إيمانية ثابتة: "الله لا يقول ذلك. الله يقول سلامًا وحياة وحرية وعدلاً ومساواة".
وتحت هذا الإيمان، شدّد البطريرك على التزام الفلسطينيين بالبقاء في أرضهم، قائلًا: "بما أن الله هو ربّ الحياة والموت، فسنظلّ ثابتين. أمّا قرار الإنسان، مهما استبد واستعلى، فلن يكون هو الأعلى".
دعوة إلى المحبة والخدمة
لم يكتفِ صبّاح بالصلاة أو التأمل، بل وجه دعوة عملية نحو الوحدة والخدمة، خصوصًا من قادة الفلسطينيين: "طبعد غزة، ماذا علينا نحن الشعب الفلسطيني أن نفعل؟ … علينا مزيدٌ من المحبّة، ومزيدٌ من روح الخدمة". واعتبر أن المحبة التي تجمع بين المطالبين بالحق والمقاومين للظلم هي السبيل إلى رؤية وطنية موحّدة: "الوطن أولًا، وفلسطين قبل أي حزب أو انتماء".
وأشار إلى قدسية الأرض ومسؤولية العالم تجاهها: "أرضنا مقدسة وهي أرض الجميع، أنتم مسؤولون عن سلامها، واقعنا اليوم هو أن جريمة ضد الإنسان في غزة حدثت وقصد الإبادة مستمر فيها وفي كامل الضفة الغربية، وهو أمر يفرض علينا تنبيه الشعوب في أنحاء العالم لما يحدث في غزة. كما أن واقعنا اليوم يقول إن هناك جماهير في العالم سارت وتظاهرت وصَلّت وصامت من أجل وقف الإبادة في غزة. كما بدلت دول كثيرة موقفها وخوفها من أجل وقف الإبادة في غزة".
وشدد على رؤيته المستقبلية: "لقد بدأنا مرحلة جديدة في أرضنا.. والله سبحانه بدأ معنا مرحلة جديدة، في ظل أن الحياة لمن يطلب الحياة، لقد دخلنا المرحلة الجديدة وهي مرحلة حياة للشعب الفلسطيني الذي سيسكن أرضه ومدنه وقراه".
كما نبّه إلى مسؤولية أخلاقية مشتركة تجاه السلام، موجّهًا كلامه للشعب الإسرائيلي: "مصير الشعب الإسرائيلي بين يديه. إن استمرّ في قتلنا سيجد الموت في نفسه. أمّا إن طلب الحياة بطرق الحياة، فسيجدها. حياة إسرائيل تكمن في سلامها مع الشعب الفلسطيني. فبقاء إسرائيل لا يتوقف على قوتها وأسلحتها، بل على سلامها مع الشعب الفلسطيني. هذه هي طريق الحياة والبقاء لإسرائيل".
قراءة روحية من المطران عطا الله حنا
في كلمته خلال إطلاق الوثيقة، قدّم المطران عطا الله حنا قراءة روحية للأحداث، داعيًا إلى عدم فصل عيد الميلاد عن جذوره الأولى في الأرض المقدسة. وقال إن العالم المسيحي "يستعد لاستقبال العام الجديد مزدانًا بالأنوار والزينة"، لكن المطلوب هو أن "يلتفت المسيحيون في كل مكان إلى أرض الميلاد بيت لحم"، مؤكدًا أنه "من دون بيت لحم لا يوجد عيد ميلاد، ومن يظن أنه يمكنه أن يحتفل بعيد الميلاد بدون بيت لحم وفلسطين فهو مخطئ في اعتقاده ومنحرف في إيمانه".
وشدّد على أن الفلسطيني "لن يستسلم لعدوانية الاحتلال"، وأن سلام الكنيسة "هو سلام العدالة والحق وحفظ كرامة الإنسان"، معتبرًا أن "السلام لا يُبنى على الاستبداد أو الاحتلال أو القمع، بل على صون حرية الإنسان الفلسطيني وكرامته".
قراءة لاهوتية في زمن عالمي مضطرب
في هذا الإصدار الجديد، لا تكتفي كايروس فلسطين بإدانة المآسي فحسب، بل تقدّم قراءة لاهوتية وإيمانية مشتركة للواقع الفلسطيني والدولي. ترى الوثيقة أن العالم يعيش "زمن إبادة"، وليس مجرد نزاع سياسي، وتدعو إلى وقفة منضبطة تُعيد الاعتبار للإيمان كمصدر للمسؤولية والعدالة. كما تشجّع الكنائس والمؤسسات المسيحية كافة على الاعتراف بدورهم الأخلاقي في وقف هذا العنف، من خلال المرافعة الدولية والصلاة والتضامن الملموس.
يشارك في المؤتمر حشد من القادة الروحيين والباحثين والمؤسسات المدنية والدولية، ما يعكس الرغبة في ترجمة هذا البيان إلى فعل كنسي وإنساني على أرض الواقع. وترجّح التوقعات أن تحظى الوثيقة بصدى محلي ودولي واسع، إذا ما استُقبلت كدعوة مؤمنة وجريئة لإعادة إنتاج السلام الحقيقي، القائم على الكرامة والمساواة وحق الإنسان في الأمان.
أهمية الوثيقة وتأثيرها المتوقع
تجسد وثيقة كايروس فلسطين الثانية استمرار الجهد المسكوني الفلسطيني في الدفاع عن العدالة والسلام وحقوق الإنسان، وتقدم موقفًا موحدًا للكنيسة المسيحية في فلسطين في مواجهة التحديات الراهنة. ومن المتوقع أن تترك هذه الوثيقة صدى واسعًا على الصعيدين المحلي والدولي، إذ تدعو الكنائس والمؤسسات المسيحية إلى تعزيز التضامن والدفاع عن حقوق الفلسطينيين، وتذكّر المجتمع الدولي بضرورة احترام كرامة الإنسان وحقه في الحياة والأمان. كما أنها تؤكد أن الإيمان والالتزام الأخلاقي يمكن أن يكونا قوة محركة للتغيير، وأن صوت فلسطين المسيحي قادر على التأثير في صنع القرار الدولي وفي دعم مسار السلام المستدام.
الجذور والهوية: كايروس فلسطين ورسالتها
تعود فكرة الوثيقة الثانية إلى جذور المبادرة نفسها: «كايروس فلسطين» هي جهد مسكوني فلسطيني تأسّس عام 2009 ليكون صوت الكنيسة المسيحية الفلسطينيّة في الدفاع عن العدالة والسلام وحقوق الإنسان. في ديسمبر من ذلك العام، أصدرت المبادرة الوثيقة الأولى تحت عنوان "لحظة حقيقة: كلمة إيمان وأمل ومحبة من قلب المعاناة الفلسطينية"، ودعت المسيحيين في العالم إلى دعم الشعب الفلسطيني والتضامن معه في مواجهة الاحتلال.
كلمة "كايروس" – كما يوضح مؤسّسو المبادرة – هي كلمة يونانية تعني "اللحظة الحاسمة"، وتعبر عن اللحظة الروحية التي تدعو فيها الكنيسة إلى موقف جريء.




