يقلم الأب يسطس الأورشليمى
عودة اليهودية تحت حكم الولاة الرومان (44-66م) :
بعد موت هيرودس اغريباس الأول سنة 44 عادت اليهودية مرة أخرى إلي الحكم الرومانى المباشر وبقيت هكذا حتى قيام الحرب اليهودية الكبرى (66-70م). وقد توالى فى هذه الفترة سبعة ولاة :
كاسبيوس فادوس (44-46م) :
الذى عين على اليهودية بعد وفاة هيرودس اغريباس الأول وذلك في سنة 44م. وبعد وصوله مباشرة واجه جماعة اللصوص والمتشردين من اليهود الذي أنتشروا في البلاد متذرعين في أعمالهم التخريبية بدوافع الحقد الديني والتعصبي ضد الرومان خاصة والأمميين عامة، مما جعل كاسبيوس – رغبة منه في حفظ النظام والأمن – أن يضرب بشدة غير مفرق بين الطيب والشرير. وبذلك بدت المشكلة لا تحل من وجهة نظر اليهود ولا الحكام الرومان، فالشغب والإضراب مستمر في أنحاء البلاد، وهو مدفوع بدوافع دينية غير واضحة، ويعتبره اليهود أمراً شرعياً بينما كان في نفس الوقت يعتبره الحكام الرومان تحدياً للامبراطور وللحكم كله.
وكانت تجتاح اليهودية في ذلك الوقت حركة تعصب ديني ضد الرومان والأمميين عموما يغذيها " الفريسيون " ومن يتبعهم بضيق خلقهم وتفكيرهم من جهة تعارض الناموس والوصايا مع كافة تحركات وسكنات الحكام الرومان، ويغذيها أيضا " الغيورون" بضيق تفكيرهم من جهة أن اليهودية ديانه لا يمكن أن تعيش إلا في ظل الحرية السياسية، وطالما يوجد مستعمر أممى في البلاد فالديانه اليهودية تصبح فاقدة لجوهرها وقيمتها، ولذلك كانت من أهم مبادئهم هو المناداة بالحرية السياسية وتطهير الأرض إستعدادا للمسيا، لأن مجيء المسيا وحكمه وملكوته الأرضي يستلزم حتماً حرية سياسية كاملة !!
ومن هنا يتضح خطورة ومأزق اى حاكم رومانى مهما كان لطيفاً أو حكيماً أو متزناً، بل وإستحالة نجاح اي حاكم رومانى تجاه هذه التعصبات الضيقة المغلفة بالدين، والمتحصنة به، مع خضوع الشعب لها خضوعاً كاملاً أعمى، وبوصول الحاكم كاسبيوس فادوس سنة 44م، وجد اليهود في مناوشات وإحتكاكات مستمرة مع الأمميين، وخصوصا في إقليم السامرة وفي مدينة فيلادلفيا شرق الأردن، وفي نفس الوقت واجه حركة نهب وسلب يتزعمها رئيس للصوص يسمى طولمي وذلك في أدومية جنوب اليهودية.
وقد واجه كاسبيوس فادوس فوق كل هذه الظروف ما هو أشدها صعوبة، وهو قيام مسيح كاذب يدعى " ثوداس " مع أتباعه، واقنع جماعة كبيرة من الشعب أن يتأهبوا للنضال ويتبعوه إلى الأردن، مدعيا أنه نبى، وسوف يشق لهم الأردن بكلمة ليعبروا، ولكن فادوس لم يمهلهم ليتمموا أفكارهم، فأرسل لهم فرقة من الفرسان وقعت عليهم فجأة وهم بلا أى سلاح أو معونة وذبحوهم، وأسروا الباقين أحياء، وقبضوا على ثوداس وقطعوا رقبته وحملوا رأسه إلى أورشليم.
ولكن هذه الحوادث عامة كانت تكشف عن مدى قلق الشعب، وإضطراب النفوس، وعدم استقرار الأمة اليهودية كلها بسبب التعاليم الضيقة والإثارات المتوالية التي كان بضع مئات من الرؤساء يبثونها في الشعب الساذج الأمى البسيط.
طيباريوس أسكندر (46م) :
عندئذ استدعي كاسبيوس فادوس إلى روما وحل بدلا منه على اليهودية طيباريوس اسكندر، وهو يهودى اسكندري موالى لروما وابن اسكندر الأبارك شقيق فيلو الفيلسوف اليهودى الاسكندري المشهور، وفي أثناء حكم هذا الوالي حدثت المجاعة الكبيرة المشهورة والمذكور في سفر الأعمال:
" وفي تلك الأيام أنحدر أنبياء من أورشليم إلى أنطاكية، وقام واحد منهم أسمه اغابوس، وأشار بالروح أن جوعا عظيما كان عتيدا أن يصير على جميع المسكونة، الذي صار أيضا في أيام كلوديوس قيصر " (أع27:11و28)، وقد قامت أيضا أثناء حكم طيباريوس اسكندر مشاغبات كثيرة أُخمدت بالعنف، وحوكم وأُعدم فيها ولدا يهوذا الثائر الجليلي زعيم حزب الغيورين هناك.
كومانوس (48م) :
وبعد طيباريوس اسكندر حكم اليهودية الوالي الرومانى كومانوس سنة 48م، الذي عانى من حدة البغضة والتحفز وإحتكاك اليهود به، الذى أنتهى بثورة مصطنعة قام بها اليهود في أثناء عيد الفصح إحتجاجا على أعمال بعض الجند، مما أضطر الوالي كومانوس إلى إستدعاء الجيش من قيصرية لتهديد اليهود الثائرين ضد الحكم، ونزل الجيش في قلعة أنطونيا فخاف اليهود وهربوا وداسوا بعضهم عند أبواب المدينة حتى مات منهم عشرون ألفا حسب رواية يوسيفوس. ولم يكن كومانوس متعسفا في سلوكه العام ضد اليهود، فيوسيفوس نفسه يشهد له أنه بمجرد أن علم أن أحد الجنود تعدى على مشاعر اليهود ومزق أحد الأسفار التي كانت في أيديهم، قام بمحاكمته وأمر بإعدامه.
وفي أيام كومانوس حدث أن السامريين تعدوا على بعض اليهود الجليليين أثناء عبورهم السامرة في طريقهم إلى أورشليم، كما حدث للمسيح نفسه أيضا كما هو مذكور في (لو52:9-54)، وزاد السامريون بأن قتلوا بعضا من اليهود،
فذهب اليهود إلى الوالي الرومانى وقدموا شكوى رسمية، إلا أن كومانوس كان قد تلقى رشوة من السامريين فغض النظر عن شكاية اليهود وحفظها، فما كان من اليهود إلا أن هجموا على السامرة وأحرقوا بعض القرى وقتلوا كثيرا من الأهالي، فتحرك كومانوس بجيشه من قيصرية وحاصر اليهود وقتل الكثير منهم وقبض على الباقين الذين لم يستطيعوا الفرار، ولكن لم تنته حوادث الشغب والإعتداءات، فأضطر السامريون للذهاب إلى الحاكم العام في سوريا، وكان يدعى أوميديوس كوادراتس،
وقدموا شكواهم، واليهود أيضا أرسلوا مندوبين عنهم ليقدموا شكواهم ضد السامريين بصفتهم المعتدين وبصفتهم أيضا مقدمى رشوة، كما قدموا شكوى ضد كومانوس كطاغ ومرتش، فقدم حاكم سوريا إلى السامرة وقام بالتحقيق الذي أنتهى منه بأن أرسل المندوبين من كلا الجانبين السامرى واليهودى وكذلك كومانوس نفسه إلى روما للتحقيق أمام محكمة قيصر نفسه، وكان اغريباس الثانى موجودا في روما فوقف في صف اليهود الذي حكم لصالحهم بالبراءة، هذا بالإضافة إلى نفوذ زوجة الإمبراطور اغريبينا وهي يهودية الأصل، أما السامريون فأعدموا، وأما كومانوس فأرسل إلى المنفى، وكان ذلك سنة 52م، وقد قوى هذا الإجراء روح الإنتقام والتشفى من حكام الرومان المحليين وزاد من روح إحتقار الضباط والشعور بالتعالي والثورة.





