مصطفى الفقي
ربطتنى ببابا الكنيسة الراحل شنودة الثالث صلة قوية ومتميزة بحكم موقعى فى مؤسسة الرئاسة سابقًا، وعندما وفد إلى الكرسى الباباوى البابا تواضروس الثانى كنت أعرف عنه الكثير لأنه كان مسؤولاً عن الكنيسة القبطية فى محافظة البحيرة والمدن الخمس الكبرى حتى الحدود الليبية. وكنت أعرف أنه كان صيدليًا قبل الرهبنة وإنسان راقى التصرفات وديع النفس هادئ السريرة.
وقد تولى مراسم المرحلة الانتقالية أستاذه فى اللاهوت ودراسات الكهنوت الأنبا بوخوميوس الذى رحل عن عالمنا عام ٢٠٢٥ بعد حياة حافلة استودع فيها كل خبراته لدى تلميذه النجيب البابا الحالى للكنيسة المصرية الوطنية التى تجسد عنصرًا هامًا فى تكوين الشخصية المصرية وهوية الوطن الذى ننتمى إليه. ولقد تابعت كمصرى مسيرة آباء الكنيسة فى العقود الأخيرة فوجدت أن الله يقيض لها من يمكنه التعامل مع رئيس الدولة المصرية فى مختلف الظروف، فكان البابا كيرلس السادس مقترنًا بعصر عبد الناصر بما فيه من هزات عنيفة وأحداث جسام، فتفرغ البابا القديس للصلاة وارتبطت علاقته بالرئيس الراحل على نحو يدعو إلى الإعجاب، وبنى الزعيم الكبير الكاتدرائية المرقسية الجديدة بالعباسية فى حفل كبير بحضور الامبراطور هيلاسيلاسى إمبراطور الحبشة التى تربط الكنيسة لديها بكنيستنا المصرية روابط تاريخية وثيقة.
ورحل البابا كيرلس بعد الرئيس عبد الناصر بفترة قصيرة، وجاء بعده البابا الذى يحمل قسطًا كبيرًا من الخبرة الحياتية والثقافة السياسية وأعنى به البابا شنودة الثالث الذى لعبت الكيمياء الغائبة بينه وبين الرئيس السادات دورًا سلبيًا نتيجة تأثير الوشاة على الجانبين، وانتهى الأمر بالجفوة بين الرئيس السادات والبابا شنودة الذى ذهب إلى منفاه الاختيارى بالدير فى منطقة وادى النطرون بمحافظة البحيرة، ثم عادت المياه إلى مجاريها وعاد البابا شنودة إلى موقعه الطبيعى.
ولى معه ذكريات يطول عرضها وشرحها، فقد كان مثقفًا رفيع الشأن بعيد الرؤية، كما كان متعمقًا فى دراسة الأديان الأخرى خصوصًا الدين الإسلامى شريك الوطنية وصنو الأرض الطيبة، وكنّا نشفق على من يتولى الكرسى البابوى بعد شخصية استثنائية مثل البابا شنودة الثالث الذى لقبه الجميع باسم بطريرك العرب، ولكن الله قيض للكنيسة القبطية البابا تواضروس الثانى بخلقه الرفيع ومنطقه الهادئ وقدرته على مواجهة الظروف الصعبة والأيام الحالكة التى عاشتها مصر بعد أحداث ما سمى بالربيع العربى، ولقد حافظ البابا الجديد فى براعة وهدوء على مكانة الكنيسة، بل وحقق لها مكاسب كثيرة دون ضجيج أو صدام رغم قسوة الظروف وتتابع التحديات، فازدهرت الوحدة الوطنية وتعانقت بحق أجراس الكنائس مع نداءات المآذن واختفت إلى حد كبير الأزمات والمشكلات الطائفية خصوصًا ما يتصل منها ببناء دور العبادة، وأصبح البابا الحالى رمزًا للسكينة ومصدرًا للتآلف بين أبناء مصر من مختلف الطوائف.
لذلك شددت الرحال إلى قداسة البابا الحالى فى زيارة تطلعت إليها طويلاً لكى أستمع منه إلى رؤيته لما هو قادم على أرض الكنانة، فوجدته وديعًا هادئًا كطبيعته مثقفًا راقيًا عارفًا بهويته كمصرى عظيم من حراس الوطن الذين يتميزون بطيب المعدن والروح المصرية الصافية. وخرجت من مقر قداسته فى حالة من الرضا على أحوال وطن ليس ككل الأوطان مهما اختلفت الأديان!
نقلا عن المصرى اليوم





