يقلم الأب يسطس الأورشليمى
رسالة القديس بولس الرسول إلى أهل غلاطية تصوّر مُخلّصنا كمحرّر لنا، كما قال: فأثبتوا إذاً في الحرية التي قد حرّرنا المسيح بها، ولا ترتبكوا أيضاً بنير عبوديةٍ (غلا1:5)، ووهبنا مفهوماً جديداً للحرية، وتكشف عن قلب الرسول الناري، حيث يعلن أن الله قد أفرزه من بطن أمه لهذا العمل الفائق، ولا هدف له إلا الدخول بكل نفس إلى إنجيل المسيح، والتمتع بقوة الصليب واهب الحرية الداخلية، من كل ضعف وخطية ومن حرفية الناموس الغلاطيون: هم من سلالة السلتية Celts الذين استقروا في وسط آسيا الصغرى خلال القرن الثالث ق.م، وهذه الرسالة موجهة إلى الكنائس التابعة لمملكة غلاطية القديمة، في شمال وسط آسيا الصغرى، والتي تتكون من أقاليم: بسينوس Passinus، وأنقرة Anycra، وتافيوم Tavium
اضطر بولس الرسول في رحلته التبشيرية الثانية أن يبقى في غلاطية بسبب مرضه (أع6:15؛ غلا13:4)، وكخادم للرب لا يعرف التعب، ولم يستطع المرض أن يلزمه بالصمت، بل صار يكرز بالإنجيل، وقد نجح في تأسيس الكنائس المسيحية هناك (غلا6:1)، وهذه الرسالة كُتبت ما بين عام53 وعام57 م، من أفسس، أو من مكدونية..
بعض اليهود الذين آمنوا إذ غلبهم الميل إلى التهوّد، وفي نفس الوقت سكروا بحب المجد الباطل، أرادوا أن يقيموا أنفسهم في كرامة المعلمين لهذا جاءوا إلى الغلاطيين وعلموهم بأن الختان، وحفظ السبوت، والاهتمام ببدء الشهور أمور جوهرية، وأنه لا يجوز طاعة بولس الذي ألغى هذه الأمور، كما قالوا بأن بطرس ويعقوب ويوحنا، قادة الرسل ورفقاء المسيح لم يمنعوا هذه الأمور، فبولس يقف بمفرده، وكانت حجتهم الرئيسية شريعة موسى، وأن السيد المسيح قال: لا تظنوا أني جئت لأنقض الناموس أو الأنبياء، ما جئت لأنقض بل لأكمّل (مت17:5)، لقد أكدوا أن الخلاص مستحيل بدون الناموس، أما بالنسبة للأمم فلن يدركوا الخلاص ما لم يتهودوا أولاً، أي أثقلوا على المؤمنين بجانب بساطة إنجيل المسيح، بهذا نجح المعلمون الكذبة في إثارة القلق والتشويش في ضمائر الغلاطيين، الذين كانوا يميلون شيئاً فشيئاً نحو أتباع تعاليمهم كطريق أكثر ضماناً للخلاص وبهذا تصير المسيحية بالنسبة لهم مجرد طائفة من اليهود (أع15)..
سمات الرسالة إلى غلاطية..
أولاً: هذه الرسالة تحمل قلب الرسول الناري الملتهب بالحب، كتبها بغيرة في قوة مع عمق المشاعر، وألقى بنفسه بلا تحفظ لإعلان الإنجيل فجاءت الرسالة تحمل قوة فريدة بين كتاباته، وفيها نلتقي بالكثير من التعاليم مثل التبرير بالإيمان العامل بالمحبة، والحياة الجديدة في المسيح، التزامات الحب، مفهوم الصليب، ناموس المسيح، السلوك بالرُوح القُدس..
ثانياً: يظهر الرسول في هذه الرسالة حازماً، لأن الأمر كان خطيراً، إذ بدأ كثيرون يتحولون عن بساطة الإنجيل إلى التهود كعمل ضروري للخلاص، فالرسول يستخدم أحياناً العصا وأخرى العلاج اللطيف، فيقول للكورنثيين: ماذا تريدون؟ أبعصاً آتي إليكم أم بالمحبة وروح الوداعة؟! بينما يقول للغلاطيين: أيها الغلاطيون الأغبياء (1كو21:4؛ غلا1:3)..
ثالثاً: تكشف هذه الرسالة عن التنظيمات الكنسية وتكوينها أيام الرسول كما نقرأ عن أموراً لاهوتية عملية، وتنظيمات الخدمة على أساس الذين من أصل يهودي أو أممي، والجدال الذي قام بين رسولين (غلا11:2-14)..
رابعاً: تمدنا هذه الرسالة بمعلومات قيمة عن حياة الرسول الخاصة وخدمته، ولم يهدف إلى تقديمها، بل ذكرها عرضاً خلال سياق مجادلاته..
خامساً: مفهوم الحرية، تُقدم لنا الرسالة ربنا بكونه المُحرر، فإن حرّركم الابن فبالحقيقة تكُونُون أحراراً (يو36:8)، هكذا يليق بالمسيحي أن يترك الناموس لا ليصير حراً يسلك بذاته هو وحسب هواه، إنما يسلك بالرُوح القدس بكونه قائد حياتنا، أنظر الكتاب (غلا25:5)..
سادساً: ضمت هذه الرسالة الحديث عن كثير من الأمور المتقابلة، أو المضادة لبعضها: مثال النعمة والنامُوس، ولا يمكننا القول بأن النعمة ضد النامُوس، لأن كلمة النامُوس هنا تُستخدم بمعنى حفظ الطقُوس الناموسية أي ممارسة الطقوس الواردة في الشريعة بطريقة حرفية تفسد الإيمان الذي نناله بالنعمة، فالنامُوس يكشف لنا عن حاجاتنا إلى النعمة..
بالإيمان نقبل النعمة الإلهية، أما حفظ أعمال النامُوس، فيكشف عن ضعفنا، والإيمان الحقيقي لا يمكن عزله عن الأعمال الصالحة الرُوحية التي هي عمل الرُوح القُدس في حياة المُؤمن كمصدر تقديسنا، لكنه الإيمان العامل بالمحبة (غلا6:5)، فاللص الذي شهد للمسيح أثناء الصلب، شهادته هي إيمان حقّ وفي نفس الوقت عمل صالح، لأنه فعل أفضل بكثير مما فعله التلاميذ، فالشهادة في مثل هذه الظروف عمل إيماني صالح..
ثمر الرُوح، وأعمال الجسد (غلا19:5-6:6)، فالرُوح القُدس يُعطينا غلبة ونُصرة يومية على الخطية، بينما الجسد يستعبدنا لها..
الصليب والعالم (غلا14:6)، فالصليب يعني بذل الذات (الأنا)، بينما محبة العالم تعني الأنانية، بالصليب نقتني المجد الداخلي الذي يُقابله المجد الباطل، أو مجد هذا العالم الزائل، وهناك مقابلات أخرى مثل: الخطية والخلاص منها، وإرضاء الناس وإرضاء الله، والاتكال على الفكر البشري وإعلان يسوع المسيح، والدينونة والتبرير، عهد قديم وعهد جديد، خدام مستعبدون وأبناء ورثة، نمو في النعمة وسقوط منها، السلوك بالرُوح وتكميل شهوة الجسد (غلا4:1؛ 14:2؛ 6:3-22؛ 10:4؛ 17:5)..
سابعاً: الحياة المسيحية كما جاءت في هذه الرسالة، لا تعرف التطرف فالحرية كتحررّ من عبُودية الطقس الحرفي لأعمال النامُوس، لكنها ليست خروجاً عن نامُوس المسيح، فهي حياة شخصية مع الله، الذي يختار المُؤمن ويدعُوه، دُون تجاهل لحياته الكنسية، أو حياته وسط الجماعة..
ثامناً: في هذه الرسالة نرى ربنا يسُوع المسيح محررنا، جاء ليهبنا حرية وقُوة، فهو حامل خطايانا، ومُخلّصنا ومُقدسنا، وقد لُعن من أجلنا، أنظر الكتاب المُقدس (غلا4:1؛ 16:2؛ 13:3؛ 5:4)..
تاسعاً: تكشف عن: عمل الثالوث القدُوس في حياة المُؤمن كواهب للحرية الداخلية، فالآب يُدعى: أبانا الذي له المجد إلى أبد الآبدين، يحبنا كأبناء له نتمجد معه أبدياً، هذه هي حريتنا أن نتشبه به، فيصير لنا القلب المتسع الذي يحب إخوتنا في البشرية لكي يشاركونا مجدنا السماوي..
بمعنى أن الآب يهب الرُوح الجامع نحُو كُل البشر، والابن هُو محرّرنا الذي دفع دمه الثمين ليهبنا الحرية، ويهبنا الشركة في صلبه، أي بذل الذات، وصار هو عبداً من أجلنا، ونحنُ بإرادتنا الحرة نود أن نكُون عبيداً لأبناء الله في المسيح يسُوع، والرُوح القُدس هُو رُوح التبني وليس رُوح العبُودية، يعمل فينا ليحضرنا للآب في المسيح كأبناء له أحرار (يو36:8)..
أقسام الرسالة وهي:
(1) المقدمة، وتشمل: التحية، وظرُوف كتابة الرسالة (غلا1:1-10)..
(2) توضيح شخصي، ودفاعه عن سلطانه الرسولي (غلا14:2)..
(3) عرض لاهوتي، التبرير والنعمة (ص4،3)..
(4) التطبيق العملي: الحرية المسيحية (ص6،5)، ويشمل الخطُورة عليها من الأعمال الناموسية، تعريف الحرية وحسن استخدامها، إعلانها عملياً، ثم ارتباط الحرية بالصليب (غلا11:6-16)..
تكشف لنا هذه الرسالة عن عظمة شخصية المسيح بصورة رائعة غير أنه لا يدرك هذه العظمة إلا الذين يعيشون في المسيح يسوع، فيعرفون من كنوز نعمته، ويجدون فيه كُل الشبع الحقيقي.





