سحر الجعارة
(على شاطئ البحر بنت، وللبنت أهل، وللأهل بيت. وللبيت نافذتان وباب.. وفى البحر بارجة تتسلى، بصيد المشاة على شاطئ البحر:
أربعة، خمسة، سبعة يسقطون على الرمل، والبنت تنجو قليلاً.. لأن يداً من ضباب.. يداً ما إلهية أسعفتها، فنادت: أبى.
يا أبى! قم لنرجع، فالبحر ليس لأمثالنا! لم يُجبها أبوها المسجى على ظله.. فى مهب الغياب)، وكأن الشاعر الراحل «محمود درويش» كانت يُسطر المشهد الأخير لحياة أسرة الطفلة «ريتاج» لتبدأ مأساتها: (أنا قعدت يومين تحت الركام، وفى نص الليل جه شاب قال لى أنا ما عرفت أنام، وجيت بدى أنقذك، قعد يحفر ويحفر، وفى الآخر طلعنى، بس مالقيتش رجلى)، هكذا لخّصت بعبقرية فقد الأب والأم والإخوة وإخوتها، وجميع أفراد عائلتها فى القصف نفسه الذى ربما استغرق دقائق حصدت حياة عائلة، ومعها «ساق ريتاج».
«ريتاج الفلسطينية» ابنة العشر سنوات «أيقونة حب»، بريئة مثل قطرة ندى تغازل وردة تتفتح.. اكتمل وعيها رغم أنف الجميع.. إنها ابنة الأرض الصلبة فلسطين التى تلد مناضلات لا يعرفون الطفولة التى سرقها منهن «المحتل الغاصب»، الأطفال لا يعرفون عن بطون الأمهات الحوامل من حولهم إلا أنهن سيلدن «شهداء».. لا تعرف معنى «التعصّب».. حتى تلوثت عيونها الطاهرة بمشاهد الجرائم الوحشية لإسرائيل.. تسمع همساً يدور فى البيت حول التطهير العرقى والتهجير من غزة إلى «أرض الشتات».. لكنها واثقة أن جذورها سوف تظل مغروسة بهذه الأرض.. تذهب بعد الفجر بقليل لتطمئن أن العصافير لا تزال تشدو أغنياتها، ولم تغادر سماءها بعد.. وتسقى شجرة الزيتون الصغيرة أمام الدار، وتنظر بعيون الأسئلة عمن تبقى من الجيران والأهل «على قيد الحياة»
«ريتاج» تنسج من بقايا حواديت أمها صورة مدرستها التى تهدّمت، وترتدى كل يوم زى المدرسة فى انتظار إعادة بنائها.. وتغنى لفلسطين.. تتغنى بأشعار محمود درويش وسميح القاسم ونزار قبانى، لترى «وطناً» يدق به جرس الكنيسة ويرفع أذان الصلاة ويسير فيه الإنسان دون أن يتحسس رأسه حتى لا تأتيه طلقة مفاجئة.. وطناً لا يتمزق بين الإخوة، ولا يتصارع فيه الأعمام على السلطة، ولا تستغل إسرائيل «غباء الكبار» ليأكلوا الصغار وهم نائمون.. فلم تنجُ من تلك الأشباح إلا باللجوء لبيت شعر: (تحيط خاصرتها بالألغام.. وتنفجر.. لا هو موت.. ولا هو انتحار، إنه أسلوب غـزة فى إعلان جدارتها بالحياة. منذ أربع سنوات ولحم غـزة يتطاير شظايا، قذائف، لا هو سحر ولا هو أعجوبة، إنه سلاح غـزة فى الدفاع عن بقائها، وفى استنزاف العدو.. ومنذ أربع سنوات والعدو مبتهج بأحلامه.. مفتون بمغازلة الزمن.. إلا فى غزة، لأن غزة بعيدة عن أقاربها ولصيقة بالأعداء.. لأن غزة جزيرة كلما انفجرت -وهى لا تكف عن الانفجار- خدشت وجه العدو وكسرت أحلامه وصدته عن الرضا بالزمن).. «محمود درويش».
تؤمن ريتاج بتناسخ الأرواح حتى للأوطان، فكلما انفجرت غزة بُعثت من جديد، توقن أنها واحدة ممن يحملون لغز «سر البقاء».. فقط عليها أن تذهب الآن إلى «أم الدنيا» لتعالج جرحها وتوصل رسالة أهل غزة إلى رئيسها «عبدالفتاح السيسى»: ريتاج وُلدت من أجل هذه المهمة.
وهنا على أرض المحروسة مصر تلقت العلاج الطبى، تحولت إلى حمامة سلام زاجل طارت لتحط على كتف الرئيس السيسى، وتنشده الأمان وكأنه حين ربت على كتفها كان يسدل على غزة نفسها «خيمة أمان»: (أنا عاوزة أطلب من أبويا عبدالفتاح السيسى، أنا بس أشوفك ونفسى هيك تتعمل معايا مقابلة وأسلم عليك وأبوس راسك)، ولبّى الرئيس، لأن «ريتاج مُلخص القضية».
ريتاج هى حاضر غزة الموجع ومستقبلها الضبابى حتى الآن، وكأن الأرض التى صافحت السلام بيد «السيسى» ترتمى فى أحضانه كطفلة ترجوه استكمال عملية السلام: (أنا ريتاج بنت فلسطين، باشكرك يا عمو السيسى إنك وقفت الحرب)، هكذا وصلت رسالة الحالمين بالغد للرئيس.. ورسمت إلى جانب العلم عصفورة وحمامة رمزاً للسلام، ليبتسم لها الرئيس ويضع الورقة فى جيبه: إنها القضية التى تشغله دائماً.
إن إنقاذ طفلة واحدة من مجازر العدو الصهيونى يعادل تحرير وطن، فما بالك بإنقاذ المئات من المصابين والجرحى.. والمشردين داخل غزة نفسها.. وما ريتاج إلا عنوان للغد الذى يتشوه وتضيع ملامحه تحت آلة الحرب الجهنمية.
لا تزال عيون ريتاج تلمع، لأنها محمّلة بالأحلام، تحلم بأن تكون رسّامة لتحول الأرض النازفة بريشتها إلى وطن آمن.. وسوف يتحقق حلمها سريعاً.
(لأن الزمن فى غزة ليس عنصراً محايداً، إنه لا يدفع الناس إلى برودة التأمل، ولكنه يدفعهم إلى الانفجار والارتطام بالحقيقة.
الزمن هناك لا يأخذ الأطفال من الطفولة إلى الشيخوخة، ولكنه يجعلهم رجالاً فى أول لقاء مع العدو.. ليس الزمن فى غـزة استرخاء، ولكنه اقتحام الظهيرة المشتعلة.. لأن القيم فى غـزة تختلف.. تختلف.. تختلف.. القيمة الوحيدة للإنسان المحتل هى مدى مقاومته للاحتلال، هذه هى المنافسة الوحيدة هناك).. محمود درويش.
نقلا عن الوطن





