بقلم الأب يسطس الأورشليمى
الرُوح القدُس هو الذي شكّل ناسوت المسيح منذ لحظة البشارة بالتجسد الإلهي، ولما كان لاهوت السيد لم يفارق ناسوته، لهذا لم يكن قط في معزل عن الروح القدس، ولا في حاجة إلى تجديد الروح له، لأنه لم يسقط قط في خطية، إنما طلب السيد أن يعتمد لكي يكمل كُل برّ، أي يُقدم لنا براً جديداً نحمله فينا خلال جسده المقُدس، حلول الرُوح القُدس عليه كان لأجل الإنسانية التي تتقدس فيه، فتقبل روحه القدوس..

اعتمد يسُوع من يُوحنا المعمدان لكي يُطهر الذي تدنس، ويجعل الرُوح ينحدر من فوق، فيرفع الإنسان إلى السماء، ويُقيم الساقط الذي انحدر وصار في عارٍ، لقد أصلح المسيح كُل الشرور، فأخذ البشرية الكاملة لكي يُخلّصها، ولكي يصبح مثالاً لكُل واحدٍ منا، لذلك فهو يُقدس باكورة وثمار كُل عمل يقوم به، ليترك لعبيده غيرة حسنة في اقتفاء أثره..

وأما يسُوع فكان يتقدم في الحكمة والقامة والنعمة عند الله والناس..

لقد كان التجسد حقيقة واقعة، والإخلاء واقعاً وليس مظهراً أو خيالاً، لهذا أخلى الابن ذاته عن أمجاده ودخل في حياتنا البشرية حاملاً ناسوتاً حقيقياً يتقبل النمو في الرُوح والسند الروحي والنعمة، بجانب التقدم في الحكمة والقامة، ليس كمَن هو في نقص يحتاج إلى مزيد، وإنما كممثلٍ حقيقيٍ لنا، يتقبل النمو المُستمر لحسابنا، بهذا قدم لنا الرّب نفسه طريقاً حقيقياً خلاله نتسلّم العطايا الإلهية لخلاصنا ونمونا..
راجع الكتاب المقدس (لو52:2)..

ما هو الفارق بين معمودية يُوحنا المعمدان والمعمودية المسيحية؟
عرف اليهود أنواعاً من المعموديات منها معمودية المتهودين الدخلاء، في هذا الطقس يُعلنون أنهم قد كرسوا حياتهم لحساب إسرائيل مع التزامهم بالوصايا والنواميس الإلهية، أما معمودية يُوحنا فقد جاءت رمزاً للمعمودية المسيحية يقبلونها للتوبة، تستمد قوتها في الغفران والتمتع بالخلاص من خلال المرموز إليه، ذلك كما حَملت الحيّة النحاسية قوة الشفاء خلال الصليب الذي ترمز إليه، وكما وهب عبور البحر الأحمر خلاصاً للشعب خلال المعمودية، فمعمودية يُوحنا كانت عاجزة عن أن تهب البنوة لله، الأمر الذي انفردت به المعمودية المسيحية لدخول المسيح إليها..

أن المعمودية التي أعلنها يُوحنا أثارت سؤالاً في ذلك الحين: 
هل هي من السماء أم من عند الناس؟ (مت25:21؛ أع19)..
أنها بلا شك إلهية، لأن يُوحنا تمم ما قد أمُر به من الله، لكنها بشرية في نفس الوقت، لأنها كانت للتوبة لا تهب الرُوح القدُس ولا غفران الخطايا، كانت معمودية أشبه بطالبة للمغفرة والتقديس، إذ تُهييء الطريق لتبعية المسيح، معموديته كانت إعداداً للطريق، وقد شهد يُوحنا قائلاً:

أنا أعُمدُكُم بماءٍ للتوبة، ولكن الذي يأتي بعدي هو أقوى مني ... هو سيُعمدُكُم بالرُوح القدُس ونارٍ، الذي يأتي من فوق هو فوق الجميع، والذي من الأرض هو أرضيٌ، ومن الأرض يتكلّم، الذي يأتي من السماء هو فوق الجميع..
راجع الكتاب (مت11:3؛ يو31:3)..

إن كانت معمودية يُوحنا لم تقدم عطية مغفرة الخطايا، لكنها قدمتها خلال المعمودية التي جاءت بعدها، حيثُ فيها نُدفن مع المسيح، ويُصلب إنساننا العتيق، لقد عُرف اليهود في ذلك الوقت بعدم شعورهم بالخطايا، فجاء يُوحنا المعمدان ليدخل بهم إلى الإحساس والشعور بالخطايا، وبهذا هيأهم للإيمان بالذي يأتي بعده فينالوا غفران الخطايا..

أن معمودية يُوحنا تُغفر الخطايا وتُخلّص من العقاب الأبدي من أجل ما حملته من رمز لمعمودية المسيح، إذ يقول: حينئذٍ خرج إليه أورشليم وكُل اليهودية وجميع الكورة المُحيطة بالأردُن (مت5:3)..

كيف كان يُعمد الخارجين إليه المعترفين بخطاياهم، لقد كانوا يكشفون له جراحاتهم، وهو يقدم بعد ذلك العلاج، فيُخلّص الذين يُؤمنون من النار الأبدية، لذلك كان يقول لهُم يُوحنا المعمدان: يا أولاد الأفاعي، مَن أراكُم أن تهربوا من الغضب الآتي، راجع الكتاب (مت7:3)..

متى بدأت المعمودية المسيحية؟ متى اعتمد التلاميذ والرُسل؟
أن عماد المسيح قد فتح لنا باب المعمودية واهباً إيانا إمكانياتها فيه، لكن العمل اكتمل باصطباغه على الصليب ودخوله إلى الموت وقيامته، المعمودية صبغة آلام وشركة دفن وتمتع بقوة قيامة الرّب..

أن التلاميذ والرُسل لم ينالوا المعمودية المسيحية حتى يوم العنصرة، لكي ينالوا قوة ظاهرة ويتسلّموا خدمة الميلاد الجديد بالماء والروح بطريقة واضحة، أما الدليل على ذلك فهو قول الرّب نفسه قبل صعوده: يُوحنا عمد بالماء، وأما أنتُم فستعمدون بالرُوح القدُس (أع8:1)..

لماذا حلّ الروح القدس على (بيت كرنيليوس) قبل المعمودية؟
في هذا الحادث (أع9) يظهر التمييز بين المعمودية وحلول الرُوح القدُس، والعجيب أن التثبيت هنا سبق المعمودية، والسبب في هذا أن عماد كرنيليوس وأهل بيته يُعتبر عملاً فريداً بكونه بدء ميلاد كنيسة الأمم، ولم يكن ممكناً على اليهود أن يتقبلوا بسهولة ضم الأمم إلى الكنيسة، ولو بدأ الرُسل بالعماد ثم حلّ الرُوح القدُس عليهم لحدث شقاق مُر بين الكنيسة التي من أصل اليهود في ذلك الحين والرسول بُطرُس، لهذا أعلن الله قبول الأمم برؤيا بُطرُس في وسط النهار (أع9:10)، حتى لا يتشكّك في الأمر..

وتكرر الحديث الموجه إليه للتأكيد، وحينما نزل للعمل أراد الله أن يسنده بعملٍ واضحٍ أمام الجميع، وقبل أن تمتد يده بالعماد سكب روحه القدوس على السامعين، وهنا تجاسر الرسُول بقوله: أترى يستطيع أحد أن يمنع الماء حتى لا يعتمد هؤلاء الذين قبلوا الرُوح القدُس كما نحنُ؟

ما هو موقف الأطفال غير المعمدين في يوم الرّب؟
كلمات الرّب يسُوع المسيح واضحة وصريحة:

مَن آمن واعتمد خلص، ومَن لم يُؤمن يُدن (مر16:16)..
ومع هذا يليق بالكنيسة المجاهدة أن تعرف حدود تفكيرها: إنها تُنادي بالخلاص، وتُقدم سرّ الحياة، لكنها تترك الدينونة لله نفسه، ليس عملنا أن نتساءل: ما هو موقف الأطفال الذين لم يعتمدوا دون ذنب من جانبهم؟ أو ما هو موقف غير المُؤمن الذي لم يسمع عن الخلاص؟ إنما عملنا هو الكرازة، لأن إجابة هذه التساؤلات تسبب بلبلة في الكنيسة..

ما هو موقف الشهداء الذين لم يعتمدوا؟
المعمودية في جوهرها هي صبغة آلام مع الرّب، أي شركة آلامه ودفنه وتمتع بقوة قيامته، فالشهداء الذين لم ينالوا فرصة العماد في المياه، تمتعوا بالمعمودية باسم الثالوث القدوس خلال شهادتهم لله حتى الدم، مصطبغين به ومُشتركين مع السيد في آلامهم، لهذا تُحسب معموديتهم معمودية دم، لقد رأى بعضهم في عمادهم في المياه أنه تهيئة للدخول في صبغة آلام المسيح خلال الاستشهاد، وكانت طلبتهم من الرُوح القدُس في المعمودية أن ينعموا بآلام الجسد، لأنه عندما طعن المُخلّص في جنبه لخلاص العالم بصليبه أفاض دماً وماءً، لكي يعتمد مَن هم في حالة سلم في الماء..
أما الذين في وقت الاستشهاد ففي دمهم، وقد اعتاد الرّب أن يدعو الاستشهاد عماداً، قائلاً: أتستطيعان أن تشربا الكأس التي اشربها أنا وأن تعتمدا (تصطبغا) بالمعمودية التي اعتمد بها أنا؟
راجع الكتاب (مر38:10؛ يو34:19)..

هل يجوز إعادة المعمودية المقدسة؟
كما نولد جسدياً مرة واحدة ولا تتكرر الولادة، هكذا نُولد روحياً مرة واحدة، فلا يجوز تكرار المعمودية، إنها ختم روحي أبدي يدخل إلى أعماق النفس، لا تقدر الخطيئة أن تنزعه، ولا الهراطقة أو الموت أن يحله، لهذا إن أخطأ أحد حتى إلى إنكار الإيمان فعند عودته لا تُعاد معموديته، لكنه بحياة التوبة يُعيد ثوبها النقي الذي أفسد نقاوته الأولى، لأنه يوجد رّب واحد، وإيمان واحد، ومعمودية واحدة، راجع الكتاب (أف5:4)..

ما معنى قول الرسول بُولس: لأن الذين استُنيروا مرةً، وذاقوا الموهبة السماوية، وصاروا شُركاء الرُوح القدُس، وذاقوا كلمة الله الصالحة وقوات الدهر الآتي، وسقطوا لا يُمكن تجديدهم أيضاً للتوبة، إذ هم يصلبون لأنفُسهُم ابن الله ثانيةً ويُشهرونه (عب4:6-6)..

نحنُ لا نرفض التوبة، بل نرفض إعادة التجديد بالحميم، والدليل على هذا أنه لم يقل: لأنه غير ممكن أن تتجددوا للتوبة وصمت، بل أكمل إذ يقول: ويصلبون لأنفُسهُم ابن الله ثانية، لأن تجديدهم إنما يرتد إلى الحميم وحده .. أما بالنسبة للتوبة، فبعدما يكونون قد تجددوا ثُم يُستعبدون للذنوب، فإن التوبة تُخلّصهم من هذه العبودية وتحررهم وتقويهم..

العماد صلب، إذ يقُول: عالمين هذا أن إنساننا العتيق قد صُلب معه ليُبطل جسد الخطية، كي لا نعود نُستعبد أيضاً للخطية، فدفنا معه بالمعمودية للموت، راجع (رو4:6-6)، فالمُعمد ثانية إنما يكرر الصلب، وكما مات السيد المسيح بالصلب، هكذا نحنُ بالعماد..