بقلم نادر شكري
في حديثي مع بعض أهالي قرية الجلف بالمنيا، حاول البعض تبرير الحادث بعادات وتقاليد القرية، والتهوين من أحداث الاعتداء على الأقباط وحرق بعض الزراعات، بالقول إنهم "شوية أطفال وصبية".
وهذا الرد يتكرر في كثير من الأحداث، وهي كارثة لا يدرك حجمها من يحاول تهوين الأمر؛ فعندما يقوم أطفال أو صبية بالهجوم على جيرانهم وقذفهم بالحجارة وسط حالة من الفرح، وتقف خلفهم أمهاتهم، فهنا الجريمة الكبرى، فأنت لم تؤذِ جيرانك الأقباط فقط، بل أذيت أطفال وصبية القرية أنفسهم، الذين زُرعت فيهم الكراهية تجاه جيرانهم وأصدقائهم الذين كانوا يومًا ما يلهون معهم أو يجلسون بجوارهم في المدرسة.
• زرع الشوك
أنتم تزرعون الشوك، هكذا هو أفضل تعبير لمشاركة الأطفال والصبية في أحداث طائفية متكررة، سواء بسبب شائعة عن علاقة أو لرفض بناء كنيسة، مثل ما حدث في قرية الفواخر أو الكوم الأحمر، فمحاولة التقليل من خطورة الأمر بالقول إنهم صبية، أمر لا يعرف معناه من يتحدث؛ فنحن نُعد أجيالًا تحمل مشاعر الكراهية والمفاهيم الخاطئة تجاه الآخر، ولا سيما أن ذاكرة الطفل ستظل تحمل هذه المشاهد طوال حياته، وسيبقى في ظنه أن الأقباط يختلفون عنه، لأنه شارك في هتافات دينية رسّخت بداخله فكرًا متطرفًا، تتحمل الأسرة مسئوليته.
في كثير من المقاطع المصوّرة – وآخرها في قرية "الجلف" – ظهرت أم تحمل طفلًا على كتفها وتسرع لالتقاط الحجارة وتقذف بها منازل جيرانها الأقباط، ويقف خلفها أطفالها الآخرون يفعلون الأمر نفسه، تلك الأم التي كانت تبتسم بعد “معركتها” التي شعرت بانتصارها فيها، لم تدرك أنها قذفت منزلًا خلفه أسرة وسيدة وأطفال يصرخون ويرتعبون.
نحن هنا أمام أذى نفسي أيضًا لأطفالٍ يتعرضون للرعب والإرهاب، وساهمت هي في غرس فكرٍ داخلهم تجاه أصدقائهم في القرية.
• هل الأطفال والصبية يحكمون القرية؟
من يقدم هذا المبرر يخطئ في حق القرية نفسها؛ فهل يعني ذلك أن الكبار والعقلاء غير قادرين على السيطرة على الأطفال والصبية؟ هل يقفون متفرجين على جريمة تُرتكب في حق أبنائهم قبل أن تكون في حق الأقباط؟ إنهم بهذا يعطون مبررًا لاستخدام العنف في هذا العمر، ويزرعون بداخله كراهية الآخر.
وبعد انتهاء الجلسة العرفية، تحول الأمر إلى هرج ومسيرات في القرية بين الكبار والأطفال، وهم يهتفون بما وصلت إليه الجلسة من تهجير للأسرة، وترددت هتافات دينية أمام منازل الأقباط، ليستمر أهالي القرية في زرع الشوك في أطفالهم.
يحدث هذا في وقت ننادي فيه جميعًا بـ غرس قيم التسامح والمحبة بين الأجيال الجديدة لتأمين الوطن وبناء جمهورية قائمة على العدالة والانتماء وقبول الآخر.
• إنقاذهم قبل فوات الأوان
أمام أم تحمل طفلها لتقذف جيرانها بالحجارة، وأب يشارك في الهتافات والاعتداء، يقف بينهم أطفال ضحايا تحولوا من براءتهم في هذا العمر إلى قنبلة موقوتة تحمل الكراهية التي تكبر معهم.
ولذا، عندما نجد شابًا يذهب لتفجير كنيسة أو يرتكب جريمة قتل على أساس الهوية، فلا تتعجب؛ فهناك من زرع الشوك من البداية.
لا سبيل لإنقاذ أطفال وصبية هذه القرية – من الطرفين – إلا بـ تكثيف القوافل الثقافية والإبداعية لإزالة الأثر النفسي بين الجانبين، عبر خلق أنشطة مشتركة وتصحيح المفاهيم، ولا سيما أن الطرفين يلتقيان يوميًا في المدارس وشوارع القرية، فالوقاية الحقيقية تكمن في إعادة إعمار نفوس هؤلاء الأطفال، لا في جلسات الصلح العرفية التي هي حلول مؤقتة لا تنتج حلولًا جذرية لبناء مجتمع سوي قائم على التعايش المشترك.
ولا شك أن منابر المؤسسات الدينية تتحمل جانبًا كبيرًا من المسئولية، لأنها أكثر الجهات تأثيرًا في المجتمع القروي.
ولذا، على وزير الأوقاف أن يضع خطة واضحة لهذا الأمر، بعيدًا عن الزيارات الشكلية أو الموضوعات التي لا تمت لجوهر دوره بصلة، مع تعاون مشترك مع كنيسة القرية لتبادل الزيارات، ولا سيما بين الأطفال، لتصحيح الفكر المتطرف الذي رسّخ فكرة العقاب الجماعي للأقباط عندما يخطئ فرد.
• لا لصناعة جيل مشوه
إن ما جرى في قرية الجلف ليس حادثًا عابرًا، بل جرس إنذار لوطنٍ يُهدد من داخله لا من خارجه. فحين نترك الأطفال يتربّون على الكراهية، فإننا نكتب بأيدينا سطورًا لمستقبلٍ مشوّه، فالحوادث الطائفية لا تُطفأ بالجلسات العرفية، ولا تُعالج بالبيانات الرسمية، بل تبدأ معالجتها من المدرسة والبيت والمنبر.
فإذا كان الأطفال هم من حملوا الحجارة اليوم، فماذا سيحملون غدًا؟ علينا أن ندرك أن الأمن الحقيقي ليس في الهدوء المؤقت، بل في بناء وعي مستنير يحصّن المجتمع من الداخل، فكل حجر أُلقي في الجلف أصاب جدار الوطن كله، وكل صمت عن العدالة هو مشاركة غير مباشرة في صناعة جيلٍ مشوَّه القيم.





