المطران روجيه أخرس
تذكر الكنيسة في قوائمِ تذكاراتِ القدّيسين، آباءَ مجمع نيقية الـ318 (حسب التعداد الذي يُعطيه القديس أثناسيوس الذي حضر المجمع)، وتذكر معهم اسم الملك "المؤمن" قسطنطين الذي دعا إلى المجمع. 

لكن عند النظر إلى مجريات المجمع وما لحقه من أحداث، نتعلّم أن لا نرفع الأمور سريعًا إلى المثالية! 

فعند بداية مجمع نيقية، كان هناك سبعة عشر أسقفًا مناصرًا لآريوس، منهم من يؤيّد فكره كأوسابيوس النيقوميدي، ومنهم من يميل إليه شخصيًّا كأوسابيوس القيصري المعروف بأبي التاريخ الكنسي.

وفي النهاية، وقّع جميع الأساقفة على قانون الإيمان النيقاويّ (نؤمن بإله واحد...)، باستثناء أسقفين مصريّين (سيكوندوس وثيونا)، فعُزلا ونُفيا. وبعد ارفضاض المجمع بأشهر قليلة، عَزَلَ قسطنطين الملك كلًّا من أوسابيوس أسقف نيقوميديا، وثيوغنيس أسقف نيقية، لأنّهما تراجعا عن توقيعيهما في المجمع ورفضا عزل آريوس. 

لكنّ الغريب أنّه بعد المجمع بقليل، بدأ زمن التحوّلات، وعادت الآريوسيّة بقوّة إلى الكنيسة. فلم تكد تمرّ سنتان على انعقاد مجمع نيقية، حتّى انقلب قسطنطين نفسه على المجمع وأيّد الآريوسيّين. فأعاد الأسقفين اللذين نفاهما بنفسه: أوسابيوس النيقوميدي وثيوغنيس النيقاوي. وكثيرون من آباء المجمع النيقاوي نفسه (أوسابيوس الحمصي، آقاق القيصري، ماريس الخلقيدوني ...) عادوا إلى الآريوسيّة. وعُقدت المجامع المحلّية ونُفي الذين كانوا أبطال الأرثوذكسيّة في مجمع نيقية: فنُفي أوسطاثيوس بطريرك أنطاكية سنة 330، وأثناسيوس بطريرك الإسكندرية سنة 335.

والجدير بالذكر أنّ قسطنطين الملك المظفّر و"المؤمن" نال العماد في آخر حياته، في 22 أيار 337، على يد صديقه القديم أوسابيوس أسقف نيقوميديا، زعيم الفريق الآريوسيّ الذي سبق لقسطنطين نفسه أن نفاه! 

إنّ قراءة أحداث مجمع نيقية وما تلاه تذكّرنا بأنّ تاريخ الكنيسة ليس قصّة من المثاليّات، بل مسيرة بشرٍ يحملون قداستهم وضعفهم أمام الله. فالأساقفة الذين اجتمعوا في نيقية لم يكونوا ملائكة، بل رجالًا من لحمٍ ودم، اختلفوا وتصارعوا، وسقط بعضهم في التقلّبات السياسيّة أو اللاهوتيّة. ومع ذلك، عمل الله من خلالهم ليعلن الحقّ ويثبّت الإيمان في لحظة تاريخيّة.

وذكرى مجمع نيقية تدعونا أيضًا إلى التأمّل في العلاقة بين الأرثوذكسيّة والقداسة. فالكنيسة تذكر آباء مجمع نيقية بين القدّيسين، وتضع اسم الملك قسطنطين المؤمن في تقويمها، مع أنّه تبيّن أنّ ليس كلّ من حضر المجمع بقي ثابتًا في الإيمان القويم طوال حياته. 

مع ذلك، تكرّم الكنيسة ذكرى من كانوا شهودًا للحقّ في لحظة حاسمة من تاريخها، وشهودًا للمجمع المسكوني المقدّس الذي ثبّت الإيمان بالمسيح الإله الحقّ من الإله الحقّ. لا تتجاهل الكنيسة ضعف آباء المجمع أو تقلّباتهم، بل تراها جزءًا من التاريخ الذي فيه يعمل الله رغم هشاشة البشر. فالقداسة ليست معصوميّة من الخطأ على طول الطريق، بل تواضعٌ أمام الحقيقة حين تتجلّى.

وهذا ما نراه أيضًا في أشخاصٍ آخرين عبر التاريخ: فمار إسحق النينوي، الذي وُلد في كنيسة المشرق، تبنّت كتاباته كلّ الكنائس الأرثوذكسيّة لأنّ روحه كانت مملوءة من الله، وكلماته نابعة من اختبارٍ روحيّ أصيل. 

لا يجوز أن ننظر إلى التاريخ الكنسيّ بنظرة مثاليّة، غير واقعيّة، ناسين ضعفات البشر وتقلّباتهم وانقساماتهم. بل بعد أن نعي ذلك ونتواضع، نتطلّع إلى عمل الروح القدس والدعوة الإلهيّة التي يدعونا إليها : أن نعمل من أجل الوحدة في الحقّ والمحبّة. 
المطران روجيه أخرس