بقلم الأب يسطس الأورشليمى
يرى البعض أن كلمة: روما هي من أصل يوناني، وتعني: قوة، وتستخدم بمعنى: مع السلامة، أو ليكن لك صحة قوية جيدة، ويرى البعض أنها تعنى
 
"مرتفع"، وقد دُعيت هكذا لسببين:    
(1) لأن رُومليُوس القائد، قد أسسها عام 753 ق.م فحملت اسمه.. 
 
(2) لأنها بنيت على مكان مرتفع على أكمة من الآكام السبع، وفي منتصف القرن السادس ق.م أحيطت بسور يضم المدينة كلها..
 
    لقد أتسع نطاقها ونفوذها، حتى صارت عاصمة الدولة الرومانية، والتي استولت على حوض البحر الأبيض المتوسط كله، وصارت روما ملتقى ساسة العالم وقادته، ومركزاً للعلوم والأدب والفلسفة، واشتهرت على وجه الخصوص بالقانون الروماني الذي لا يزال يُدرّس في أغلب جامعات العالم وأمتلأت روما بالرجسات الوثنية قادمة من كل العالم كبلد مفتوح للجميع ويظهر ذلك مما جاء في الإصحاح الأول من هذه الرسالة..
 
    ويقدر عدد سكان روما في القرن الأول بحوالي 2مليون نسمة، وثلث سكانها كانوا من الرقيق، وكان بالمدينة عدد كبير من اليهود الذين قادهم "بمبيوس" القائد الروماني أسرى حينما استولى على سورية عام63 ق.م وأسكنهم قسماً من المدينة، ثم تحرر هؤلاء اليهود وتكاثروا حتى أصبحوا حوالي 16ألف نسمة في عهد الرسول بولس..
 
  كان هؤلاء اليهود في سلام وراحة، حتى جاء عهد "طيباريوس" عام 19م وفي عهد" كلوديوس" قيصر عام49م، أمر بطردهم جميعاً (أع2:18)، والذي يدل على كثرة هؤلاء اليهود، أنه لما مات هيرودس الكبير، جاءت لجنة من اليهود إلى روما لتستعطف أوغسطس قيصر، فخرج لاستقبالها حوالي 8 آلاف رجل من أعيان اليهود بالمدينة، وكان لليهود في روما أكثر من 13مجمعاً، وهم طائفة تميل إلى إحداث الفتن والثورات في العالم..
نشأة المسيحية بروما..
 
أولاً: جاء في سفر أعمال الرسل أنه في يوم الخمسين حضر يهود أتقياء من كل أمة، ومن بينهم رومانيون مستوطنون يهود دخلاء (أع10:2) هؤلاء قبلوا الإيمان وكرزوا بين اليهود، لهذا نجد الرسالة موجهة بالأكثر إلى اليهود المتنصرين أكثر من الأمم المتنصرين..
ثانياً: إذ تميزت الدولة الرومانية بالحرية وسهولة الانتقال ما بينها وخاصة بين البلدان المختلفة والعاصمة، وكانت روما ملتقى كبار القادة والمعلمين والتجار والحرفيين..
 
ثالثاً: إذ طرد كثير من اليهود، بعد أن آمن بعضهم بالمسيح، مثال ذلك أكيلا وبريسكلا اللذان التقيا مع الرسول بولس في كورنثوس (أع1:18) وآمنا على يديه، وأشترك معهم في صنع الخيام..
 
رابعاً: واضح من الرسالة أن أحداً من الرسل لم يكن قد أنشأ هذه الكنيسة حتى كتابة هذه الرسالة، (رو20:15) كنت محترصاً أن أبشر هكذا وليس حيث سُمي المسيح لئلا أبني على أساس آخر..
 
خامساً: بولس الرسول باعتباره رسولاً للأمم، شعر بالمسؤلية تجاه هذه المدينة كعاصمة العالم الأممي في ذلك الحين، فهو مدين لهم بالكرازة، لذا أرادها مركزاً من مراكز خدمته..
 
 زمان ومكان كتابة الرسالة..
كتب بولس الرسول هذه الرسالة وهو يتوقع زيارته لروما، وهو في طريقه إلى أسبانيا (رو23:15)، وذلك بعد ذهابه إلى أورشليم حاملاً معه عطايا مسيحيي مكدونيا وآخائيا إلى إخوتهم فقراء اورشاليم، وبهذا يكون قد كتبها أثناء رحلته التبشيرية الثالثة من كورنثوس في بيت رجل يُدعى "غايس"، وقد وصفه الرسول بولس أنه مضيفي، ومضيف الكنيسة كلها (رو23:16)، وهو أحد اثنين قام الرسول بولس بتعميدهم (1كو14:1)، وقد أملى الرسالة على "ترتيوس"، حيث حملتها إلى روما الشماسة "فيبي" خادمة كنيسة كنخريا (رو1:15؛ 22:16)، وهو ميناء شرقي كورنثوس، لذلك يرى غالبية الدارسين أن الرسالة قد ُكتبت عام 58 م..
 
أهمية الرسالة وغايتها..
سبب كتابة الرسالة والظروف التي كانت تحيط بها، فقد آمن عدد كبير من يهود روما بالمسيح، وآمن أيضاً بعض الأممين المثقفين بفكر يوناني بالرّب يسُوع، وكان يلزم أن يلتقي الجميع بوحدانية الرُوح كأعضاء في الجسد الواحد، لكن اليهود كانوا يستخفون بالأممين المتنصرين تحت دعوى أنهم أبناء إبراهيم وأصحاب الوعد والنامُوس، وشعب الله المختار.. 
 
وبذلك تأصل الكبرياء فيهم للبنوة لإبراهيم، فظنوا أن بعد قبولهم الإيمان بالمخلص يبقوا في مرتبة أسمى من غيرهم، ومن جانب آخر فإن بعض الأممين المتنصرين أخذوا موقفاً مضاداً كرد فعل للفكر اليهودي، فنظروا لليهود كشعب جاحد غليظ الرقبة، وأن الباب قد أغلق بالنسبة لليهود، ليفتح لهم على مصراعيه، الأمر الذي يعرضهم هم أيضاً للكبرياء.. 
 
وخلال هذه الظرُوف جاءت الرسالة موجهة إلى الطرفين لتعالج قضايا إيمانية حية، وسلوك رُوحي يمس حياة الكنيسة عبر الأجيال، فتحدث الرسول عن عمومية الخلاص، وأن الباب قد أنفتح للأمم جميعاً خلال الإيمان الحي العامل بالمحّبة، أنظر الكتاب (غل6:5)..
 
قدم  مفهُوم الإيمان وارتباطه بالخلاص، وعالج مشكلة الكبرياء سواء في حياة اليهود أو الأمم، وحياة التقديس والحياة الإيمانية، والسلوك المسيحي خلال العلاقة العامة والخاصة، وعلاقة المؤمن بالمجتمع الذي يعيشه..
 
لقد قيل عن هذه الرسالة أنها: "كاتدرائية الإيمان المسيحي"، حيث تدخل بالمؤمن إلى مقدسات الله الفائقة، وترفعه خلال مذبح الإيمان الحي العملي إلى الالتقاء بالآب السماوي في الابن الوحيد المبذول على عود الصليب وذلك بعمل الروح القدس، حتى دُعيت هذه الرسالة: " إنجيل بولس"، وقد جاءت تمهد بمجيئه بعرض إنجيل الرب يسوع الذي قبلته الكنيسة الأولى من خلال انفتاح باب الخلاص لكل الشعوب والقبائل والأمم..
 
تتكُون رسالة رومية من (16) أصحاحاً، وهي تجيب على سؤال أيوب الصديق الذي قال: كيف يتبرّر المرء لدى الله ؟!
 
فالمقاييس عند الله القدوس تختلف عند البشر، فالسماء غير طاهرة أمامه وإلى ملائكته ينسب حماقة، فكم وكم بسكان الطين، أي البشر(أي14:15) فمن منهم تصرفاته سماوية ملائكية ؟!!
 
فإن كان الدخول إلى السماء بحسب مقاييس الله، فلا أحد سيدخل لأن بيننا وبين الملائكة فرق شاسع جداً، ونحن نقول: فلان (...) أضاء وجهه مثل وجه ملاك، (رو12:3)، إذا فالناس كلهم هالكين وضائعين، فبدأ بولس الرسول القصة من البداية: 
 
كيف نصل إلى الصورة الكاملة المتكاملة ؟!
 
الله عادل، وهو الديان الوحيد، هو يحبنا ويريد خلاصنا، كيف يحدث؟
 
الرسالة هي جولة داخل نفس الإنسان الضائع الساقط الهالك، فاليهُود بالنامُوس فشلوا في حياتهم، والأمم كذلك بدُون النامُوس ساقطين، لأن الجميع زاغوا وفسدوا وأعوزهم مجد الله (رو12:3)، فما هو الحل؟!
 
هنا يظهر عمل الله العجيب، الذي يرفعنا إلى أعلى السموات، ويجلسنا معه في المجد، فنتمتع به ونتبرر قدامه، ونكون مثله،  ليكُون هُو بكراً بين أخُوة كثيرين، أنظر (يو2:14؛ رو29:8؛ أف6:2)، في بيت أبى منازل كثيرة، وأنا أمضي لأعدّ لكم مكاناً، وأن مضيت وأعددت لكم مكاناً آتى أيضاً وآخذكم إلى حتى حيث أكون أنا تكُونُون أنتم أيضاً..
 
في هذا الإصحاح الأول الذي يمثل مقدمة للرسالة، وفيها يكشف بولـس
الرسول عن جوهر الرسالة كلها، فهو يكتب بحكمة وفطنة، ليكشف لنا في كلمات قليلة عن " إنجيل الله" وفاعليته وأهميته في حياة المُؤمنين.. 
كما يعلن خلالها عن مركز الرسول في الرب وفكره وحكمته ورسالته وإشتياقاته الروحية، وهو لم يقاوم حركة التهود في هجوم سلبي، إنما يفتح كل قلب إيجابياً لحب الخلاص (خلاص كل الأمم) ، وقد بدأ بإبراز أخطاء الأمم حتى يعطي فرصة لأصحاب حركة التهود المطالبين بالعودة إلى أعمال الناموس الموسوي الحرفية، والرسول يريد ألا يشعروا، أي (اليهود) أنه متحيز للأمم على حسابهم، إنما هو محب للجميع..
 
أقسام الرسالة تتكون من الأتي:
أولاً: حاجة الكل للخلاص ...(ص1 ـ 3)..
(1) مقدمة الرسالة ...(2) حاجة الكل اليهودي والأممي إلى الخلاص..
ثانياً: اليهودي وبر الله ...(ص4 ـ 10)..
(1) الاتكال على أبوة إبراهيم .. (2) وعلى أنهم شعب الله المختار..
ثالثا: الأممي وبر الله .. ونجد ذلك في (ص11)..
رابعاً: الجانب العملي (ص12 ـ 15)، ويشمل المؤمن والحياة المقدسة والمجتمع، ثم في النهاية خاتمة الرسالة (ص16)..