سعيد عبد الحافظ
الأصل في منطق الأشياء وطبيعتها  أن تكون هناك سلطةٌ تنظّم حياة المجتمع وتحفظ نظامه العام، وتدير الصراعات بين أفراده، وتمنع انفجار الفوضى. حيث من الصعب، إن لم يكن من  المستحيل، أن تولد الديمقراطية من رحم الفوضى، هذا فضلا عن  أن الشعوب لا يمكنها أن تعيد بناء دولها بمجرد إسقاط أنظمتها.

وبعيدًا عن المصطلحات المصطنعة أو الشعارات الملفّقة، يظلّ السؤال الجوهري عبر التاريخ هو: أيهما يسبق الآخر، الدولة أم الثورة؟

والبداية من عند فلاديمير لينين بكتابه الشهير «الدولة والثورة» الصادر عام 1917، حيث رأى أن الدولة ليست سوى أداة قمعٍ طبقي في يد الطبقة المالكة، ولا يمكن إصلاحها أو تزيينها بالديمقراطية، بل يجب تحطيمها بالكامل كي تنشأ سلطة جديدة تعبّر عن الطبقات الشعبية.

وكانت الثورة طبقا  لوجهة نظره، فجرًا جديدًا يُمحى فيه الماضي كله.

لكن التاريخ سرعان ما دحض تلك الفكرة بل وهدمها 
فبعد سنوات قليلة، تحوّلت “الدولة الثورية” في روسيا إلى جهازٍ بيروقراطي شديد القسوة، يمارس القمع باسم العدالة الاجتماعية. حتى إن لينين نفسه قام بمراجعة أفكاره لاحقًا، وكتب عام 1920 كتابه الشهير «اليسارية مرض الطفولة في الشيوعية»، الذي هاجم فيه “الثوريين الطفوليين” الذين يرفضون أي تسوية أو تدرّج أو مشاركة داخل المؤسسات القائمة.

قال إنهم يعيشون في نقاءٍ خيالي  بينما الثورات الحقيقية تحتاج إلى واقعيةٍ باردة أكثر من الحماس الغاضب.

وعلى الضفة الأخرى من الفكر السياسي، كان هناك تيارٌ آخر يتبلور في النصف الثاني من القرن العشرين.

ففي عام 1968، كتب صمويل هنتنغتون في كتابه «النظام السياسي في المجتمعات المتغيرة» أن الخطر الأكبر في العالم النامي ليس الاستبداد، بل الفوضى الناتجة عن ضعف المؤسسات.

ثم جاء فرانسيس فوكوياما بعد عقود، ليؤكد أن بناء الدولة يسبق بناء الديمقراطية، وأن الانتخابات بلا مؤسسات قادرة تشبه “تزيين بيتٍ آيلٍ للسقوط”.
أما المدارس الثورية والأناركية  من باكونين إلى كروبوتكين  فقد رفضت هذه الرؤية، وحلمت بمجتمعٍ بلا دولة أصلًا، يقوم على التضامن الذاتي والتعايش الحر.

لكن التجارب التاريخية، من كومونة باريس إلى إسبانيا 1936، أثبتت أن المجتمعات التي حاولت إلغاء الدولة سرعان ما وقعت ضحية من يملك السلاح والتنظيم.

فالفوضى، في كل الأحوال، لا تهدم السلطة فحسب، بل تُعيد إنتاجها في صورةٍ أكثر قسوة.

وهذا بالضبط ما حدث في التجربة المصرية بعد ثورة 2011.

ففي سنوات الثورة الأولى، انتشرت بين قطاعاتٍ من الشباب والنخب مصطلح “الثورة المستمرة” ورفض كل مؤسسات الدولة باعتبارها بقايا النظام القديم.

ومن وجهة نظري، لا يعدو هذا كونه أناركية عاطفية تشبه ما وصفه لينين يومًا بـ“اليسارية الصبيانية”: طاقةٌ أخلاقية عظيمة، لكنها عاجزة عن إدارة واقعٍ معقّد، وتفتقد لمشروعٍ حقيقي لبناء الدولة، بل تنشغل بالانفعال ضدها أكثر من إصلاحها.

ومع صعود جماعة الإخوان إلى الحكم عام 2012، بدا أن المشروع الثوري انتقل من الشارع إلى السلطة من دون أن يمرّ بمرحلة بناءٍ مؤسسي.

فحاول فرض شرعية الثورة على حساب شرعية الدولة، وكانت النتيجة، كما قال فوكوياما، انهيار التوازن بين الحرية والنظام.

ثم جاءت ثورة 30 يونيو 2013 لتعيد ترتيب الأولويات، حيث أصبح إنقاذ الدولة مهمةً كبرى تتقدّم على كل شعارات الديمقراطية الشكلية.

فالحرية، من دون دولة، تتحول إلى فوضى، والديمقراطية بلا مؤسساتٍ تصبح مجرد صراعٍ مفتوح على السلطة.