بقلم الأب يسطس الأورشليمى
     النسك نزعة فلسفية قامت بين عدة طوائف وجماعات مختلفة بين الشعوب وممالك الشرق منذ قرون قبل ظهور المسيحية ومنها ما ظل قائماً حتى القرون الأولى المسيحية، وكانت أنشطتها التقليدية فى النسك على حسب المبادىء التى كانت تعتنقها فترة من الزمن. ثم إنتهت كما بدأت دون أن تترك من آثارها شيءاً.

أما عن أهم تللك الطوائف والجماعات المختلفة والمبادىء والنظم التى سارت على نهجها فهي :
أولاً :فى بلاد الهند:

   طائفة  البراهمة المشهورة فى بلاد الهند وهم يدينون بمذهب كنفوشيس وبوذا فى الزهد والحياة الإنفرادية والتقشف الصارم و إذلال الجسد وميوله بطرق غاية فى الخشونة والقسوة وكان يؤلفون من أفرادهم جماعات عديدة بعضها يعيشون فى الكهوف أو بين الأدغال والغابات وكما التجأ البعض إلى الهياكل ومناسك المعابد أو قرب شواطىء الأنهار المقدسة حيث كانوا يمارسون نوعاً من ضروب الرياضة البدنية القاسية للتعذيب بشتى الوسائل الوحشية مع الصوم والحرمان .

الرد : لم تتأثر الرهبنة القبطية في نشأتها لا بالرهبنة البوذية ولا بالرهبنة الفيثاغورية، إذ أن كلا منهما يقوم على الفلسفة العقلية وإحتقار الجسد وإعتباره شراً ، أما الرهبنة المسيحية فهي نابعة من الحب الإلهي، وتقديس وتكريس الحياة كلها لله، كما أنه لم يرد في كتب التاريخ أي ذكر لوجود جماعات رهبانية بوذية أو فيثاغورية في مصر. كما أنه لم يذكر أيضا أن مؤسسي الرهبنة القبطية الأوائل قد غادروا مصر إطلاقاً ولم تكن لهم أية علاقة بهذه الفلسفات أو بغيرها في ذلك الوقت. إذ يذكر التاريخ أن مؤسسي الرهبنة القبطية كانوا بسطاء وبعضهم كان أُمياً. لكنهم كانوا يتمتعون بالإستنارة الروحية والإفراز الداخلي النابع من الحب الإلهي والجهاد. فالرهبنة القبطية لم تستورد من الخارج.

ثانياً : الأسينين: 

قد نشأت طائفة الأسينين منذ القرن الثانى قبل الميلاد وعاشت بعيداً عن مدينة أورشليم حيث انفردت بمساكنها حول شواطىء البحر الميت، وكان أفرادها يحرمون الزواج على أنفسهم ويعيشون حياة أشتراكية بسيطة ويكدون للحصول على القوت ويتصدقون بما لديهم على أبناء الفقراء ويقدمون الإحسان بسخاء للمعوزعين من الناس. وكان من عاداتهم أن يشترطوا عن طالبى الأنضمام إلى صفوفهم أن يقضى مدة لا تقل عن ثلاثة أعوام تحت الاختبار فإن تبين من خلالها ما يبرهن على استعداده للعيش فى الحياة الجديدة. وافق رئيس تلك الجماعة على قبوله فى حظيرتها بعد أن يتعهد بخدمة الله بكل أمانة ونشاط ولايظهر من أسرار الطائفة  ولو عرض نفسه للموت.

ثالثاً : طائفة المنقطعين : 
وهذه الجماعة تعرف باسم " كتويكاى " وهى تشكل لوناً خاصاً وتضاف إلى الصور المصرية القديمة لمظاهر النسك، وكانت أفرادها تشمل طائفة من الفقراء وعرفت أيضا باسم المتصوفين أو المنعزلين. وكرست هذه الطائفة  حياتها لخدمة الإله "سيرابيس" منذ العصر البطلمى. وكانوا يعيشون داخل معابد وعملوا كوسطاء بين الإله سيرابيس وعامة الشعب الذين كانوا يفدون طلباً للشفاء من بعض الأمراض أو بقصد تفسير الأحلام ويشتركون فى تشيع جنازة العجل "أبيس". وكان أهل القرى يقدمون لهم الزاد ما يسدون به حاجاتهم، وكذلك جماعة كهنة هليبوليس كانت تعيش على الكفاف وحاول أفرادها أن يسمو بعواطفهم إلى أرقى مراتب النسك والتدين.

الرد : أما كهنة هليوبولس الذين كانوا يكرسون وقتهم للتأمل فيما وراء الطبيعة مع النسك المفرط، فلقد كانوا سطحيين ومتقوقعين على أنفسهم ولم ينتشروا خارج هليوبولس كما أنهم إندثروا حتى قبل ظهور المسيحية ، إذ عندما زار إسترابو منطقة هليوبولس في أوائل القرن الأول الميلادي لم يجد لجماعتهم أي أثر.

رابعاً : ديانة مصر القديمة :
 كانت العقائد الدينية بمصر القديمة ذات سيطرة سحرية على عقول المصريين وتغلغلت فى أعماق نفوسهم وكان لها تأثير كبير فى جميع أدوار حياتهم والعامل الأول فى أنهم احتلوا مركز الصدارة فى الحضارة بين أمم العالم القديم فى النبوغ الأدبي والفنى. فعقيدة الحياة بعد الموت أهم تلك العقائد وأقدمها على الإطلاق، إذ فطن المصريون منذ فجر التاريخ إلى أن حياة الإنسان ليست من العبث بحيث تزول فى هذه الدنيا الفانية. وقد أهتدوا بطبيعة الحال إلى التفكير فى الآخرة وإلى اعتبارها دار الخلود، ولذلك بنوا لدنياهم بيوتاً من اللبن والخشب بينما أتخذوه للآخرة قبوراً أشد صلابة لتحمل تقلبات الزمن وقسوة الطبيعة فنحتوها فى الصخر وشيدوا الأهرامات المقامة بالأحجار الضخمة، وكذلك حفظوا الأجساد بعد الموت للاحتفاظ بها منعاً للتحلل والفناء.

 الرد : ولم تكن أشكال النسك الوثني في داخل مصر مصدراً للرهبنة القبطية :
أذ أن حبساء السيرابيوم الوثنيون في العصر البطلمي لم يكونوا حبساء بالمعنى الموجود في الرهبنةالقبطية، بل كانوا حبساء لفترات مؤقتة ولظروف قد تكون لغير النسك مثل الهروب أو اللجوء كما أن رهبانيتهم لم تدم فترة طويلة بل إنتهوا قبل ظهور الرهبنة المسيحية القبطية بمئات السنين فكيف تأثرت بهم؟!

خامساً : جماعة الفلسفة الأفلاطونية الحديثة :    
نشأت هذه الفلسفة فى الإسكندرية التى تشتهر بالأفلاطونية الحديثة على يد أشهر اتباعها " أمونيوس سقاس" وهو من أصل يونانى وقد أعتنق والده الديانة المسيحية وعاش مع أسرته الفقيرة بالإسكندرية، وقد انتشرت فلسفة "سقاس" أنتشاراً عظيماً حتى وصلت إلى جميع العقول كما ذاعت بسرعة وسط العامة الذين أمكنهم فهمها وكذلك بين كبار المثقفين. فاهتم بدراستها كما أعجب بها فلاسفة عظماء مثل القديس " أوغسطينوس" وكان لها تأثيرها العميق على كثير من قادة المسيحية التى أشتملت عليها فلسفة " أمونيوس" هذا. ولكن يمكن أن نقول أن الفلسفة أخذت على يديه اتجاهاً يختلف عن سابقيه. لأن الأفلاطونية الحديثة لم تكن مجرد فلسفة وأنما كانت أيضا نظاما دينيا. وتوفى " أمونيوس سقاس" حوالى عام 243 م دون أن يترك لنا كتباً وأنما أمكن الوقوف على  مبادئة وفلسفته من كتابات تلميذه " أفلوطين".

الرد : أما جماعة الجيمنوزوفيستس Gymnosophists الذين عاشوا بالقرب من طيبة فلقد كانت أهدافهم فكرية فلسفية جدلية كما يدل إسمهم على ذلك وهذا دليل على أنهم هلينيون (يونانيون) وليسوا مصريين، وإندثروا قبل ظهور الرهبنة القبطية بفترة كبيرة.

كذلك لم تكن الرهبنة اليهودية هي مصدر الرهبنة القبطية إذ لم توجد في مصر إلا مجموعة الثيرابيوتين Therapeutae  وكانوا بجوار بحيرة ماريا (مريوط) وهم يشبهون إلى حد كبير الرهبان الأسينيون الذين عاشوا بالقرب من البحر الميت، ولم يكن هناك أي علاقة بين الرهبنة القبطية والرهبنة الاسينية التي كانت متقوقعة في وادي قمران كما أنها إندثرت قبل ظهور الرهبنة القبطية بوقت طويل.

ولكن وجود هذه الجماعات النسكية في مصر سواء كانت وثنية أو يهودية إنما يدل على عمق الإستعداد الفطري للمصريين للحياة النسكية، إذ أن الميل الباطني للنسك بدون كلل عند المصريين كان يننتظر ظروفاً جديدة مواتية ليعلن عن نفسه بأكثر نضوج، وهذا ما تحقق في الرهبنة القبطية بعد إنتشار المسيحية في مصر بوقت قصير (كما يقول العلامة إيفلين وايت.

     الرهبنة المسيحية ظهرت فى بادىء الأمر تجسيد لنظرية النسكية وفكرة فلسفية قوامها التبتل والتعبد فى البراري والجبال بعيداً عن العالم فى حياة الزهد وفقر إختيارى، واستخدمت كلمة رهبنة فى بادىء الأمر للتعبير عن حياة العزلة الكاملة Eremitical mode Of  life"  "، ولكنها استخدمت فيما بعد للتعبير عن حياة الكنوبيون " الشركة الرهبانية Coenobitic life " " . 

 وعلى ذلك فقد استخدم اللفظ "الرهبنة" فى معناه الواسع للتعبير عن الحياة التى عاشها النساك بعيداً عن العالم سواء فى عزلة كاملة أو فى حياة الشركة. والمشكلة التى تقابل الدارس للرهبنة المسيحية فى تطورها المبكر هى دوافع وأسباب قيامها فى النصف الثانى من القرن الثالث المسيحى فى صورة العزلة، والذى سرعان ما تطور إلى حياة الشركة.