د. خالد منتصر
هناك سؤال متكرر في تاريخنا الحديث، لماذا كانت صدمة بونابرت والحملة الفرنسية باعثاً على عصر نهضة وتحرر من الأفكار الرجعية القديمة، واستفزازاً لهمة المصرين وعقلهم الجمعي، وايمانهم بأن العلم هو كلمة سر الحضارة، وأن الخرافات التي كانوا غارقين فيها لا تجدي في مواجهة مدافع الفرنسيس؟، ولماذا على العكس كانت صدمة هزيمة ٦٧ بداية انكفاء على النفس، واعتصام بالتراث والكتب الصفراء، وبداية دروشة وتطرف وتوغل للأصولية؟، هناك الكثير من المفكرين العرب حاولوا الإجابة عن هذا السؤال العويص والشائك، منهم العقلاني ومنهم السلفي ومنهم من يدعي الاستنارة الدينية وهو سلفي حتى النخاع، لكن في رأيي الشخصي كانت إجابة المفكر الكبير جورج طرابيشي أفضل الإجابات وأكثرها إقناعاً بالرغم من أنها لم تأخذ شهرة وانتشاراً مثل أطروحات مفكرين آخرين مثل عابد الجابري مثلاً، فطرابيشي بعقلانيته الصارمة وأسلوبه الأدبي الجميل، فرق بين مفهومين في منتهى الأهمية، فهو قد وافق على أن الحملة الفرنسية كانت صدمة، لكنه لم يوافق على أن ٦٧ كانت صدمة، لكنه شخصها بأنها "تروما" Trauma ، وهناك فرق كبير بين الاثنين، هناك فارق كمي، فإذا كانت شحنة التنبيه ضمن طاقة احتمال الجسم المصدوم، وقابلة بالتالي للهضم والتمثل وإعادة التوظيف، تحولت إلى دافع وحافز، وكان لها مفعول المنبه من الانحطاط، والمس الكهربي الموقظ للقلب،  ولها مفعول المهماز،

  لكن إذا كانت شحنة الصدمة فوق طاقة احتمال المتلقي، وغير قابلة للدمج، سيصبح لها مفعولاً عكسياً، فبدلاً من إطلاق آليات الدفاع الواعي والتكيف السوي، تطلق الآليات اللاشعورية للدفاع المرضي بالعزوف عن مواجهة الواقع وإلغاء العقل النقدي، والتعاطي السحري مع العالم وليس التعاطي الواقعي، سيصبح لها مفعول اللجام، أما الفارق الكيفي بين الصدمة والتروما، الصدمة مفهوم فيزيائي له وظيفة تغييرية حركية، أما التروما فمفهوم نفسي له وظيفة نكوصية إنكفائية، لذلك قال حسن العطار بعد الاحتكاك بالحملة الفرنسية" إن بلادنا لابد أن تتغير، ويتجدد بها من العلوم ما ليس فيها"، وأكد نفس المعنى تلميذه الطهطاوي" الحاجة إلى التغيير، كي تستيقظ سائر الأمم الإسلامية من نوم الغفلة، ويبحثوا عن العلوم البرانية، والفنون والصنائع"، استفاد المثقفون وقتها من الحملة الفرنسية في التكيف مع الواقع وتكييف الواقع، يؤكد المفكر جورج طرابيشي في مناقشته وتوضيحه لمعنى التروما بعد هزيمة ٦٧،  التروما أو ما ترجمه طرابيشي بالرضة النفسية تستفز اللاشعور، وتخدر حساسية الوعي،  تجعل المجتمع يهرب بدلاً من أن يواجه، يتصرف كالنعامة، أو يدخل القوقعة، أو يتشرنق، يضيق بالذات ويتخيل أن حماية الذات بتدمير الذات، يمرض المجتمع بالعصاب الجماعي،  أفرزت تروما يونيه ٦٧ أسئلة كانت قد طرحتها صدمة بونابرت، لكن المجتمع قدم إجابات مختلفة، متأخرة، إجابات تنتمي لما قبل النهضة، لكن هذه الإجابات الرجعية المتخلفة كانت مختلفة، لأن هزيمة ٦٧ نفسها كانت مختلفة، أولاً كانت هزيمة لا متوقعة، فالرضة أو التروما يكون وقعها قاسياً إذا جاءت على غير انتظار، مسبوقة بشعور عارم من الثقة بالذات، ومغالاة في تقييم القوة، لم يكن هناك عربي في ذهنه احتمال الخسارة، فقد صورنا الخصم وقتها بالدويلة أو الكيان الهزيل، ثانياً الهزيمة اللامتوقعة كانت غير مغطاة، بل غير قابلة للتغطية،

لم يكن لها صمام أمان لتنفيس ضغطها على العزة القومية، والفخار العربي، بررنا هزيمة ٤٨ بإلقاء التبعة على الطبقات الحاكمة، لكن هزيمة ٦٧ كانت هزيمة للمجتمع قبل أن تكون لجيش ناصر وعبد الحكيم عامر، كانت هزيمة مجتمعية لا هزيمة عسكرية، وزاد من ثقل الهزيمة المقارنة الكمية بين العرب وبين إسرائيل، ثالثاً تلك الهزيمة كانت بالإضافة لأنها غير متوقعة وغير مغطاة، كانت متجددة غير قابلة للتصريف على حسب تعبير طرابيشي، صارت هزيمة يونيو وقتها خبرة يومية مستعصية على التخثر في شكل ذكرى، الجرح ظل ينزف ولم يتحول إلى ندبه، ومما ساعد على عدم تحولها إلى ندبة ذكرى، أن إسرائيل ظلت تعربد في بيروت وتقصف منظمة التحرير في تونس وتعربد في سماء العراق وسوريا..الخ، وأنت إذا سددت مسالك تصريف المياه الغاضبة، ارتدت المياه إلى المجرى وحفرت أخاديد وعمقت حفرة الجراح، رابعاً كان رد فعل الهزيمة على مستوى اللاشعور شبيهاً برد فعل الاغتصاب النفسي، وبالطبع كانت شعورياً ونفسياً هزيمة الأب، كانت هناك حالة يتم مفجعة بهزيمة وبعدها موت عبد الناصر، فلجأ الناس إلى أب آخر وهو التراث، ونسبنا الهزيمة إلى أننا تجاهلنا هذا التراث، وبعدنا عن الدين، وانغمسنا في عصر نهضة مزور، لدرجة أن صلى أحد الدعاة شكراً على هزيمة ٦٧، لأنه اعتبرها هزيمة للمشروع الغربي المادي الشيوعي!، وهنا ظهر الحنين للخلافة العثمانية، وصار النكوص بمثابة إضراب عن النمو، وقطيعة مع حضارة التصنيع، صار أيضاً استقالة من الفعل التاريخي، واحياء لثقافة القبيلة، بعد هزيمة

٦٧ استغثنا بالقبور  وساكنيها ليبعثوا لنا أطواق النجاة، وصارت السماء ملاذاً، وتناسينا أن الأرض من الممكن أن تصنع عليها جنتك بالعلم والعمل.
نقلا عن الأهرام