يوسف إدوارد

 عاد الإعلامي الساخر في ظهور وحيد، لكنه بدا كمن يدخل مسرحًا خاليًا بعد انتهاء العرض. ظهر بكل ما تبقّى من بريقه القديم، بضحكته المعهودة وصوته المسرحي، لكن شيئًا ما كان غائبًا؛ الروح، أو ربما المعنى.

 
 
الإعلام لا يقبل النسخ القديمة. في زمن تتبدّل فيه المفردات والأذواق والوعي، يصبح الظهور بلا رسالة مجرد حركة في الفراغ. لقد تغيّر العالم، واشتدّ وعي الناس، وصارت الشاشة مرآةً للصدق لا منصةً للعرض. لم يعد الجمهور يبحث عمّن يسخر باسمه، بل عمّن يحترم عقله ويشبهه في همّه اليومي.
 
 
ميزان الإعلام الحقيقي هو الشارع، لا الاستديو الفخم ولا المؤثرات الصوتية ولا عدد المشاهدات. الشارع وحده يعرف من يتحدث من أجله، ومن يتحدث عنه من بعيد. وحين يعود الإعلامي بلا إحساس بزمنه، يفقد صلته بالواقع، كمن يحاول الغناء في قاعةٍ أُطفئت أنوارها.
 
 
الظهور الأخير لأبوشَنّة بدا باهتًا لأنه لم يحمل قضية. الساخر، مهما كانت موهبته، لا يعيش بلا فكرة، ولا يضحك بلا وجعٍ حقيقي. كان الجمهور يومًا يرى فيه صوتًا حرًا، لكن في ظهوره الأخير لم يرَ سوى ظلٍّ متعبٍ لماضٍ جميل.
 
 
لقد انتصرت تجربة الأخبار الحقيقية على الصناعة البسيطة لأن الوعي لا يُنتج في استوديوهات الإبهار، بل في احترام عقل المتلقي. الناس تريد إعلامًا يُنصت قبل أن يتكلم، ويحلّل قبل أن يحكم، ويحترم قبل أن يسخر. فالإعلام ليس مسرحًا للتسلية، بل مسؤوليةٌ أخلاقية تجاه وعي المجتمع. وما أكثر من يملكون الميكروفون، وما أقلّ من يملكون الرسالة.
 
 
الساخر الحقيقي لا يعيش في الماضي، بل يتجدد مع الأسئلة الجديدة. حين يصبح أسير صورته القديمة، يفقد أهم ما يميّزه: الذكاء اللحظي الذي يلتقط نبض الناس ويحوّله إلى ضوء. الآن انقلبت المعادلة؛ صار الجمهور أذكى من المذيع، وأكثر وعيًا من البرامج التي تزعم أنها تكشف الحقيقة.
 
 
وربما لا يُلام أبوشَنّة وحده، فالإعلام العربي كله يعيش مرحلةً من الاستعراض المبالغ فيه؛ عودة هنا، موسم هناك، تصريحات ومشاهدات وقوائم ترند. لكن وسط كل هذا الضجيج، لا شيء يثبت طويلًا سوى الصدق. الصوت الذي يخرج من القلب لا يحتاج إلى كاميرا عالية الدقة، والكلمة التي تحمل قضية لا تحتاج إلى حملةٍ دعائية.
 
 
نحن نعيش زمنًا يختبر الإعلامي أكثر مما يختبر الجمهور. المشاهد صار ناقدًا بالفطرة، يقيس كل كلمةٍ بميزان التجربة لا بالانبهار. وهنا يسقط النموذج الاستهلاكي، وتبقى التجربة الحقيقية للإعلام الواعي؛ الإعلام الذي لا يبيع الوهم، ولا يختبئ خلف ضحكةٍ قديمة.
 
 
الظهور لا يصنع الحضور، والعودة بلا وعي ليست شجاعة، بل نزهة قصيرة في ذاكرةٍ منسية. وربما لو عاد أبوشَنّة إلى نفسه أولًا، إلى تلك الفطرة التي جعلته محبوبًا، لأصبح ظهوره حدثًا مختلفًا. لكن طالما الظهور بلا معنى، سيظل مجرّد فصلٍ إضافي في روايةٍ طويلة من الاستهلاك الإعلامي.
 
 
ستبقى هذه رؤية نكدية.. لا لأنها تكره البهجة، بل لأنها تشتاق إلى المعنى.
نقلا عن المصرى اليوم