أحمد الخميسي
تكتب فرجينيا وولف في روايتها" سيرة أورلاندو" أن : " الأدب عريس الحقيقة وشريك حياتها"، أي أن الأدب لا يعيش إلا بالحقيقة.
تخطر على الذهن هذه العبارة عندما تقرأ عملا مشبعا بقفزات الحياة في إجرامها وإنسانيتها وضحكاتها وقسوتها. الكاتب الذي جعل عبارة فرجينيا وولف تبرق في ذهني هو الأديب الليبي كامل حسن المقهور، الذي لا يعرفه معظمنا ولم نقرأه، مما يشير إلى خلل كبير في التفاعل الثقافي العربي، وتقتصر معرفتنا بأسماء قليلة مثل حنا مينا من سوريا، والطاهر وطار من الجزائر، وغسان كنفاني، ويضيع من أيادينا وعقولنا مبدعون عظام مثل كامل حسن المقهور أحد رواد وأساتذة القصة القصيرة في ليبيا الذي عثرت عليه بالمصادفة.
الكاتب من مواليد طرابلس 1935، عاش مرحلة الاحتلال الايطالي وما بعدها حتى توفي عام 2002. عاش في القاهرة سنوات من شبابه ونشر في مجلاتها الأدبية، وصدرت أولى مجموعاته القصصية عام 1965 ومن بعدها أربع مجموعات لا أكثر. في مجموعته الأولى " 14 قصة من مدينتي" تتضح على نحو ساطع موهبة الكاتب الكبير، وإدراكه لمفهوم القصة القصيرة، ثم توجيه كل ذلك للتعبير عن حياة البسطاء بعمق وفن ، ومن دون صراخ، كما يصور العلاقات المعقدة بين أهل ليبيا والاحتلال الايطالي والطائفة اليهودية، ولذلك فإن كل أبطال قصصه من الفقراء، أو مدمني الخمر والمخدرات، أو العمال البسطاء في المزارع أو الموانئ.
وحين يكتب المقهور فإنه يمسك بالقارئ من أول كلمة كما في بداية قصته " الميلاد" : خلاص؟ كيف خلاص؟، وعلى الفور يتساءل القارئ : ما الذي انتهى؟. وفي تلك القصة رجل يحلم فقط بأن يكون له ولد من صلبه ويقول الأب في ذلك: " منذ أول ليلة من الزواج كنت أشعر بالصبي يتحرك في ظهري"! يحلم الأب بالصبي لكن زوجته لا تلد له إلا قطع لحم ميتة، وفي المرة الأخيرة ينتظر الأب بلهفة، ويهرب من عمله ليبقى إلى جوار زوجته لحظة الوضع، وينهي الكاتب العبقري القصة من دون أن يقول لنا إن كان الرجل قد حظى بولد أم لا. وفي قصته الجميلة الأخرى" السور" يقول :" كان الصمت يغمر الحجرة كأنه إنسان آخر يعيش بيني وبين زنوبة".
وفي المجموعة قصة أخرى بديعة عن عامل بسيط في نقل الرمال والزلط ، هجرته زوجته، فيرجو أحد الجالسين في مقهى أن يكتب لها خطابا باسمه يخبرها فيه أنه مشتاق إليها، وعندما يسأله الرجل عن العنوان يتبين أنه لا يعرف لها عنوانا! قصص أخرى مثل قصة " عاشور" تتناول الكفاح الشعبي الليبي ضد الاحتلال الايطالي. وتتسم القصص كلها بالحيوية والأحداث الصغيرة المتسارعة والوصف الدقيق للشخصيات، غير أن الكاتب للأسف الشديد اعتمد العامية الليبية في الحوار، فظلت كلمات غير قليلة غير مفهومة لي، مثل قوله : " بالله خليه.. لا هي غير ولا في التزوفير".
ما هي التزوفير هذه ؟ لم يصل إليها خيالي. لكن ذلك لم يمنع دهشتي وفرحتي بعثوري على قاص كبير متمكن إلى هذه الدرجة، كتب هذه القصص الرائعة في زمن يوسف إدريس، وتحت مظلة الواقعية، إلا أن ما يميزها وما يرشحها للبقاء طويلا هو تلك الحرارة التي كتبت بها القصص، ذلك أنك تشعر وأنت تقرأ أن كل كلمة وكل جملة صادرة من قلب الكاتب ترتجف بانفعالاته. أتمنى من محبي فن القصة القصيرة أن يعثروا على مجموعته - متاحة مجانا على النت- ليتعرفوا إلى كاتب كبير طوته الجغرافيا وخلل التبادل الثقافي العربي.