محرر الأقباط متحدون
تُعقد في غوريتسيا، من ٢٢ وحتى ٢٤ أيلول سبتمبر، أعمال المجلس الدائم لمجلس أساقفة إيطاليا. وفي كلمته الافتتاحية، جدّد رئيس الأساقفة الإيطاليين التأكيد على أن "الحرب هي فشل السياسة والإنسانية"

السلام والادماج هما الموضوعان اللذان شكّلا الخيط الناظم لأعمال المجلس الدائم لمجلس أساقفة إيطاليا التي افتتحت بعد ظهر ٢٢ أيلول سبتمبر في غوريتسيا برئاسة رئيس أساقفة بولونيا ورئيس مجلس أساقفة إيطاليا الكاردينال ماتيو ماريا زوبّي. واستجابة لدعوة المطران كارلو روبرتو ماريا ريداييلي، تستضيف المدينة الدورة الخريفية المعتادة، وهي مدينة تم اختيارها مع نوفا غوريتسيا عاصمةً أوروبية للثقافة لعام ٢٠٢٥: خيار يحمل في ذاته رسالة قوية للزمن الذي نعيشه. وقد وصف الكاردينال زوبّي انعقاد المجلس الدائم في غوريتسيا بأنه "عناية إلهية": "إذ يتيح لنا أن نتأمل معاً في العلامات المأساوية للأزمنة التي تقلقنا كثيراً، مستحضرين ماضينا لكي نستخلص، بعد أن ينقّى ويستنير بكلمة الله، الحكمة والرؤية".

غوريتسيا ونوفا غوريتسيا هما متحدتان كعاصمة أوروبية للثقافة ٢٠٢٥، وهي أول عاصمة عابرة للحدود. "إنه خيار – أوضح الكاردينال زوبي – يندرج في مسار مصالحة والتزام مشترك في خدمة السلام تعيشه كنيستا غوريتسيا وكوبر معاً منذ عقود عديدة. إنَّ غوريتسيا، قبل أن تصبح إيطالية عقب الحرب العالمية الأولى، كانت لأربعة قرون جزءاً من الإمبراطورية النمساوية. ومع معاهدة السلام عام ١٩٤٧ بدأت قصة غوريتسيا المقسّمة بين إيطاليا وجمهورية يوغوسلافيا. ولم يكن ذلك مجرد حدود واضحة بين دولتين، بل بين كتلتين ونظامين سياسيين واقتصاديين مختلفين تماماً. وقد سُمّيت نوفا غوريتسيا وغوريتسيا بـ "برلين الصغيرة"، مدينة مقسّمة إلى قسمين". ومن هنا يشير الكاردينال زوبي إلى الدرس المزدوج الذي يعلّمنا إياه التاريخ: "لا شيء من الماضي يضيع، ولا يوجد حدود لا يمكن تجاوزها".

"لقد اختارت سلوفينيا وإيطاليا منذ سنوات التعاون، وهذا هو الثمر! وقد اختارتا ذلك في إطار أوروبي. إنَّ أوروبا الموحّدة – أضاف الكاردينال زوبّي – قد جعلت أشياء كثيرة ممكنة لأنها تأسست على التعاون، بوعي المصير المشترك للسلام بين دول أوروبا والعالم. وهذه الثمار تُظهر أن أوروبا موجودة وهي درب نحو المستقبل، ربما أكثر مما يشعر به المواطنون بسبب بُعد مؤسسات الاتحاد عنهم. ليس إيطاليا فقط، وإنما يمكن لأوروبا أن تصبح معلّمة للسلام. على أوروبا أن تتجسّد أكثر، حتى لو كانت القوميات والسيادات المتشددة والقيادة المعقدة تهددها وتُضعفها. إن عدم اليقين في العلاقات مع الحليف الأميركي الدائم والوضع الناتج عن الغزو الروسي لأوكرانيا يضعها في وضع جديد تماماً يتطلب حلولاً موحّدة لكي تكون فعالة".

"علينا، ككنيسة إيطالية وكنائس أوروبية، أن نحمل دعمنا للقارة، من أجل ترسيخها كواقع ديمقراطية وسلام وحرية، وللدفاع عن كرامة الشخص البشري في عالم يبدو في حركة دائمة. نحن بحاجة اليوم أكثر من أي وقت مضى إلى أمثلة ملموسة مثل غوريتسيا لكي نثبت أن السلام ليس يوتوبيا ساذجة، بل هو دعوة إيطاليا وأوروبا وكل مجتمع إنساني جدير بهذا الاسم". ثم شدّد الكاردينال زوبي على وضوح الخوف من مستقبل غامض مليء بالمجهول، "لأن كثيراً من الأشخاص يعيشون وحدهم وشعبنا غالباً هو شعب من العزّاب، مع تفكك العائلة والنسيج الاجتماعي. كما أن مشكلة انخفاض معدل الولادات تعبّر عن هذا الخوف، والانغلاق على الذات، وانعدام الأمل بالمستقبل". وذكّر بهذا السياق بكلمات البابا فرنسيس في الرسالة العامة "Fratelli tutti" حيث استشرف السيناريو الخطير للسنوات المقبلة. واستشهد بما اعتبره "تعريفاً صارخاً للحرب يبقى محفوراً في الذاكرة": "كل حرب تترك العالم أسوأ مما وجدته. الحرب هي فشل للسياسة والإنسانية، استسلام مخزٍ، وهزيمة أمام قوى الشر".

"بعد خمس سنوات – تابع الكاردينال زوبي – للأسف تحققت هذه التوقعات بالكامل. فقد جعلت الحرب حياة بلدان كثيرة وملايين الأشخاص أسوأ. كيف لا نفكر في غزة حيث، بينما لا يزال الرهائن الإسرائيليون محتجزين في ظروف غير إنسانية، يُجبر شعب بأكمله، جائع ويتعرّض للقصف، على نزوح متواصل وسط معاناة مأساوية ككل نزوح". ومن هنا دعا الكاردينال زوبي لكي نتبنّى كلمات البابا لاوُن الرابع عشر وننضم إلى صلاته من أجل شعب غزة الذي "يواصل العيش في الخوف والبقاء في ظروف غير مقبولة، مجبراً بالقوة على ترك أرضه مرة أخرى". "إن الكنيسة الإيطالية تنضم إلى ندائه القوي والملح من أجل وقف إطلاق النار وإطلاق سراح الرهائن".

"نسأل بقلق: ماذا يمكننا أن نفعل أكثر من أجل السلام؟ نطالب بأن يتوقف دوي الأسلحة باسم احترام الكرامة التي لا تُنتهك لكل إنسان؛ وأن تتمَّ حماية المدنيين من جميع أشكال العنف الجسدي والمعنوي والنفسي؛ وأن تُكفل لكل شخص حرية أن يقرر أين وكيف يعيش باحترام الآخر وفي أخوّة، ساعين إلى مبدأ الدولتين، السبيل الوحيد لإعطاء مستقبل للشعب الفلسطيني الذي تحتجزه حماس والهجوم العسكري الجاري. وككنيسة إيطالية – أكّد زوبّي – سنواصل تخفيف الأزمة الإنسانية والمعاناة غير المقبولة وغير المبررة بمبادرات إضافية. لأنّ الحرب هي فشل للسياسة والإنسانية". وهنا تطرق الكاردينال زوبي إلى أوكرانيا حيث القصف ما زال مستمراً بشكل ممنهج. "إنَّ المستقبل يبدو عسكرياً. نحن لا نعيش أزمة الأمم المتحدة فقط، نحن نعيش في عصر القوة. لا بل يتم التنظير أن الحرب هي رفيقة طبيعية لتاريخ الإنسان، كأنها متأصلة في طبيعته منذ الأزل، فيما أنَّ السلام هو مجرد فترات قصيرة وعابرة، وكأننا محكومون بمصير لا يمكن الفكاك منه، أن نتقاتل ونقتل بعضنا. "إنَّ السلام – يوضح الكاردينال زوبّي – يبدأ من القرب، نتعلّمه في فعل الاستقبال، في عدم الإقصاء، وفي الوقوف مع الآخر. كثيراً ما نشهد صراعاً خطيراً ومتواصلاً حيث يصبح من المستحيل تصور طرق بديلة: كل حل يتصلّب، وكل تسوية تصبح خيانة. إنَّ البقاء أسرى لهذا المنطق يعني التخلي عن إمكانية سلام خلاّق، عن ابتكار أخلاقي، عن الاعتراف بالإنسانية التي تنبض في الآخر. ومع ذلك، من خارج هذا المنطق يولد ما هو جديد. وعندما يُعاد وضع قيم مثل الرحمة، والرعاية، والقرب في المركز، تزول حتمية الانقسام".

ويرى الكاردينال زوبي أنّ "بادرة إنسانية بسيطة" تكفي "لكسر الحلقة المفرغة: المغفرة، العناق، الاعتراف بألم الآخر. ولتفادي هذه المخاطر نحتاج إلى تربية تعزز التعددية، والاعتراف بالآخر، والحوار، وحسن النية، حتى لو بدا ذلك ساذجاً. لذلك يجب أن تكون كل رعية وكل جماعة بيتاً للسلام واللاعنف، تروّج وتجمع المطالب الكثيرة والهامة التي ترتفع من المجتمع المدني. إنَّ الالتزام بالسلام، بالنسبة للمسيحيين، ليس خياراً أخلاقياً من بين خيارات أخرى، بل هو بُعد جوهري للإنجيل". كذلك ذكّر الكاردينال زوبي بأن "يسوع يدعونا إلى محبة الأعداء. هذا الالتزام يُترجم في تعزيز المصالحة، والعدالة، ورعاية الأشدَّ ضعفًا، ورفض جميع أشكال العنف. أن نكون مسيحيين يعني أيضاً أن ندين الحروب والظلم، أن ندعم الدبلوماسية، أن نوفّر الاستقبال للهاربين من النزاعات. ويعني أيضاً أن نعمل لكي يُبنى في بلدنا وفي كل جماعة محلية حوار حقيقي، ومبادلة تتجاوز المخاوف العميقة. إنَّ التربية على السلام اليوم – شدّد الكاردينال زوبي – تعني تنشئة أشخاص يعرفون كيف يخرجون من جدران الاستقطاب، ويدركون أن المسيحية تطالب بالأمانة لوصية المحبة. أشخاص يرون السلام ليس كحق مضمون بل كعمل يومي، هش، غالباً صامت، لكنه حقيقي. وإذا كان عالمنا اليوم يبدو وكأنه يفضل صدى طبول الحرب على همس المصالحة، فإن التربية على السلام هي فعل مقاومة ثورية".

كذلك ذكّر رئيس أساقفة بولونيا بأن "الكنيسة تساعد على تجديد الشغف بالحياة، وتدافع عنها من بدايتها حتى نهايتها، وتنقل فرح العطاء، وجمال العائلة، ومعنى أن نكون جماعة، وتمثل "نحن" جذابة وإنسانية. أعتقد أنه من المناسب إعادة التأكيد على ما صرّحنا به في الماضي، أي الأمل بأن يتم التوصل، على المستوى الوطني، إلى تدخلات تحمي الحياة بأفضل شكل ممكن، وتسهّل مرافقة المرضى ورعايتهم، وتدعم العائلات في أوضاع المعاناة. كما نعيد التأكيد على أن قانون الرعاية التلطيفية لم يُطبق بالكامل بعد: يجب ضمانها للجميع بفاعلية وتساوٍ في كل المناطق، لأنها طريقة ملموسة لتخفيف الألم وضمان الكرامة حتى النهاية، ولأنها تعبير سامٍ عن محبة القريب. أما في ما يخص الحياة – أوضح الكاردينال زوبي – لا يمكن أن تكون هناك استقطابات أو مساومات".

وفي الختام، ركّز الكاردينال زوبي على خبرة يوبيل الشباب الذي أقيم في تور فيرغاتا. "لقد كانت دليلاً جديداً، إن كان لا يزال هناك حاجة، على حيوية الشباب ورغبتهم في الروحانية والشركة والكنيسة. وقد أظهر إعلان قداسة بييرجورجيو فراسّاتي وكارلو أكوتيس، أن هناك عطشاً للمستقبل، ولحياة مفعمة بالمعنى والحماس. هاتان الشخصيتان الشابتان، اللتان عاشتا في أزمنة مختلفة، تدعوانا لكي نوجّه أنظارنا، مع الشباب، نحو المستقبل برجاء. وفي مناسبة يوبيل الشباب قال البابا لاوُن الرابع عشر: "أيها الشباب الأعزاء، أحبّوا بعضكم بعضاً! أحبّوا في المسيح. تعلّموا أن تروا يسوع في الآخرين. يمكن للصداقة حقاً أن تغيّر العالم. الصداقة هي درب نحو السلام". كذلك أراد رئيس مجلس أساقفة إيطاليا أن يذكّر بـ "العمل الكنسي الكبير المسؤولية" الذي قام به المجلس الدائم بتأجيل الجمعية العامة من أيار مايو إلى تشرين الثاني نوفمبر ٢٠٢٥. "لقد أردنا أن نعطي ونأخذ الوقت لكي ينضج نص يكون تعبيراً أميناً عن المسار الذي قطعناه. أمامنا كأساقفة التزام دقيق يتجاوز اللحظة الحالية، ويتعلق بسنوات مقبلة لكنائسنا: أن نقبل ونميِّز ونجسِّد ما ستسلمه إلينا الجمعية السينودسيّة. ربما يقع على عاتقنا واجب أن نزرع، وعلى آخرين أن يحصدوا. لكن ما هو أساسي الآن هو ألا ننغلق على ذواتنا، بل أن نلتقط ونثمّن العلامات الصغيرة التي تبشّر بشيء عظيم، وأن نكون حاملي رجاء مثل الشباب الذين يعرفون كيف يبنون مستقبلهم، ونصبح بناة متواضعين ومثابرين لسلام عادل ولأخوّة كبيرة بين الأشخاص".