د/ عايدة نصيف
ان مصر شكّلت لاعباً محورياً في التفاعلات السياسية على المستويين الإقليمي والدولي. فمنذ فجر التاريخ، ارتبط اسمها بمفهوم الجسر بين الحضارات، حيث التقت على أرضها طرق التجارة والثقافة والسياسة. واليوم، وفي عالم تتسارع فيه الاستقطابات بين الشرق والغرب، تظهر الدبلوماسية المصرية كأحد النماذج الأكثر تميزاً في فن التوازن بين القوى العظمى، مع الحفاظ على الاستقلالية في القرار الوطني والسعي لحماية المصالح القومية العليا.وفى الحقيقة ارى انه
لم يكن التوازن الدبلوماسي مجرد خيار مؤقت لمصر، بل هو إرث راسخ في سياستها الخارجية. فمنذ عصر محمد علي في القرن التاسع عشر، حاولت مصر الإفلات من الهيمنة العثمانية المباشرة عبر الانفتاح على أوروبا، وفي الوقت ذاته بناء قوة داخلية تجعلها لاعباً إقليمياً مستقلاً.

ثم  فى العصر الحديث رفضت مصر أن تكون أداة في يد المعسكر الغربي أو الشرقي أثناء الحرب الباردة، وساهمت فى تأسيس حركة عدم الانحياز، لتصبح القاهرة عاصمة الحياد الإيجابي. ومنذ ذلك الوقت، ترسخت صورة مصر كدولة تحاول الجمع بين الانفتاح على الغرب والتمسك بحقها في علاقات متوازنة 
ورغم الضغوط السياسية في ملفات مثل حقوق الإنسان أو الموقف من بعض القضايا الإقليمية، نجحت مصر في تفادي القطيعة أو التبعية الكاملة. فمصر تدرك أهمية دول القوى عظمى، لكنها في الوقت ذاته تعي أن الاعتماد المفرط عليها قد يضر بقدرتها على المناورة.

ومنذ بداية الألفية الثالثة، ومع تراجع الهيمنة الأمريكية الأحادية، أعادت مصر إحياء شراكتها مع موسكو. في المجال العسكري، وعلى الصعيد الاقتصادي، وعلى سبيل المثال لا الحصر تجسّد التعاون في مشروع محطة الضبعة النووية، الذي يعكس ثقة متبادلة ورغبة في تنويع مصادر التكنولوجيا والطاقة.

هذا الانفتاح على روسيا أعطى مصر أوراق قوة إضافية في مواجهة الضغوط الغربية، وأكد أن مصر لا تميل الى طرف واحد. وفي الوقت ذاته، حافظت مصر على علاقات متوازنة مع أوروبا، خاصة فرنسا وألمانيا، لتعزيز التعاون في مجالات الطاقة والبنية التحتية ومكافحة الإرهاب.

و إذا كان القرن العشرين قد شهد استقطاباً بين واشنطن وموسكو، فإن القرن الحادي والعشرين يشهد صعوداً لشرق آسيا بقيادة الصين. وهنا لم تتردد مصر في الانفتاح على بكين، خاصة مع مبادرة "الحزام والطريق" التي ترى مصر نفسها جزءاً أساسياً منها بفضل موقعها الجغرافي وقناة السويس.

فالصين اليوم واحدة من أكبر المستثمرين في مصر، خصوصاً في المنطقة الاقتصادية لقناة السويس، إضافة إلى دورها المتزايد في مشروعات البنية التحتية والطاقة المتجددة. وبذلك، تعزز مصر مكانتها كـ"نقطة التقاء" بين الشرق الصاعد والغرب التقليدي.

ولا تقتصر دبلوماسية مصر على القوى الكبرى فقط، بل تشمل كذلك دوائرها الإقليمية. ففي إفريقيا، تولي مصر أهمية خاصة لعلاقاتها مع دول حوض النيل، حيث تعتبر قضية المياه والأمن المائي مسألة وجودية. وفي العالم العربي، ما زالت مصر تتحمل مسؤولية دورها التاريخي كـ"قلب المنطقة"، من دعم القضية الفلسطينية إلى السعي لتسويات في ليبيا والسودان واليمن.

إن نجاح مصر في الحفاظ على مكانتها الدولية مرهون بقدرتها على تعزيز نفوذها الإقليمي، لأن العالم ينظر إلى قوة الدولة من خلال مدى تأثيرها في محيطها المباشر.وارى انه لتحقيق هذا التوازن، تعتمد مصر على عدة أدوات:منها الحياد الإيجابي وعدم الانحياز التام لأي طرف مع القدرة على لعب دور الوسيط
و التنوع في التحالفات بشبكة واسعة من العلاقات مع قوى متعددة في الشرق والغرب بالاضافة الى القوة الناعمة: عبر الثقافة والفن والتعليم والأزهر الشريف والكنيسة المصرية
 ولا يفوتنى ان اشير الى الموقع الجغرافي وقناة السويس التي تمنح مصر ورقة ضغط استراتيجية في التجارة العالمية.بالاضافة الى عامل هام الا وهو 
المؤسسة العسكرية كعامل قوة يفرض احترام مصر في أي معادلة إقليمية.

ورغم نجاح هذه الاستراتيجية، تواجه الدبلوماسية المصرية تحديات كبرى منها محاولةالاستقطاب الدولي: الحرب الروسية الأوكرانية وضعت مصر  أمام اختبار صعب في الموازنة بين مصالحها مع موسكو وضغوط الغرب.ولكنها تسير بمنهج دبلوماسى رائع
بالاضافة الى التحولات في الطاقة: المنافسة العالمية على الغاز في شرق المتوسط تجعل مصر في قلب صراع إقليمي ودولي بل تحدى العالم كله ينظر اليه الا وهو 
القضية الفلسطينية و استمرار التوترات يجعل مصر مطالبة بحق الشعوب وسيادة الدول ورفض التهجير والوصول الى حل الدولتين  ، وهو ما يرهق دبلوماسيتها.اما 
الاقتصاد الداخلي: و نجاح السياسة الخارجية مرتبط بقدرة الاقتصاد المصري على الصمود أمام الضغوط الداخلية والخارجية.

ورغم هذه التحديات، هناك فرص حقيقية أمام الدبلوماسية المصرية منها 
الوساطة الدولية: فمصر مؤهلة للعب دور الوسيط في أزمات الشرق الأوسط وإفريقيا بفضل علاقاتها المتوازنة.والموقع الاستراتيجي: تطوير محور قناة السويس ليصبح مركزاً عالمياً للتجارة واللوجستيات.

والتكامل الإفريقي: استثمار رئاسة مصر السابقة للاتحاد الإفريقي لتعزيز نفوذها في القارة.وفى مجال 
والتكنولوجيا والطاقة: التعاون مع الشرق (الصين والهند) والغرب (أوروبا وأمريكا) في مجالات الابتكار والطاقة النظيفة.

واخير اختم مقالى هذا بأن الدبلوماسية المصرية اليوم ليست مجرد رد فعل على المتغيرات الدولية، بل هي استراتيجية واعية تقوم على التوازن. فمصر لا تريد أن تكون تابعاً لواشنطن، ولا أسيرة لموسكو أو بكين، بل تسعى أن تكون لاعباً مستقلاً يُحسب له حساب.

وفي عالم يتسم بالسيولة وعدم اليقين، قد يكون النموذج المصري ـ القائم على التوازن بين الشرق والغرب ـ واحداً من أكثر النماذج قدرة على الصمود، ليس فقط لحماية المصالح الوطنية، بل أيضاً للمساهمة في استقرار منطقة تعج بالصراعات.

و يبقى السؤال امامنا المطروح عزيزى القارىء هل تستطيع مصر الحفاظ على هذا التوازن في ظل تفاقم الصراع بين الشرق والغرب، أم أن ضغوط الواقع تجعلها في المستقبل تميل للانحياز  لطرف بعينه؟ والاجابة اتركها لعقل القارىء طبقا للمشهد الانى ولتاريخ دولة بحجم وطنا الحبيب
نقلا عن فيتو