بقلم الأب يسطس الأورشليمى
      يقول الكتاب في سفر المزمير "إِنْ حَفِظَ بَنُوكَ عَهْدِي وَشَهَادَاتِي الَّتِي أُعَلِّمُهُمْ إِيَّاهَا، فَبَنُوهُمْ أَيْضًا إِلَى الأَبَدِ يَجْلِسُونَ عَلَى كُرْسِيِّكَ". سفر المزامير (132 :12). هل حقا حفظ بنى إسرائيل عهد الله وشهاداته؟. لا. 

هل قبلوا المسيح حسب نبوات اسفار الكتاب؟. لا. 

    ونتذكر إيضا موقف هام للمتنيح قداسة البابا شنودة الثالث خلال زيارته بالولايات المتحدة الامريكية في أبرايل 1977م.

   حيث كشف قداسته عما  دار فى الجلسة المغلقة التى أعقبت المؤتمر الصحفى،قائلا: «وجه الرئيس الأمريكى عدة أسئلة حول الكنيسة القبطية، وعن رأيى فى موضوع القدس لأنه يعرف أن الكنيسة القبطية لها رأى فى المشاكل لاسيما فى الصراع العربى الإسرائيلى، وكان الرئيس الأمريكى يريد من كل ذلك استدراج الكنيسة القبطية إلى موقف «ملائم»، من وجهة النظر الأمريكية فى مشاكل الصراع العربى الإسرائيلى، فقلت له: «إن اليهود ليسوا شعب الله المختار فى الوقت الحاضر، وإلا ماذا نسمى الكنيسة المسيحية؟.. فإذا كنا نعتقد أنهم شعب الله المختار، فمعنى ذلك، أننا المسيحيين، لسنا مختارين من الله بالمرة، أما عن المشاكل السياسية فنحن نتحدث عن المبادئ العامة الأساسية الخاصة بالمشكلة، أما التفاصيل فهى متروكة لرجال السياسة».

     في هذا يقول القديس أنطونيوس في رسالته الخامسة: أنطونيوس إلى أبنائه الأعزاء , الإسرائيليين القديسين فى جوهرهم العقلى .ليس هناك حاجة إلى ذكر أسماءكم الجسدية التى ستفنى لأنكم أنتم أبناء إسرائيليون . حقا يا أبنائى , أن الحب الذى بينى و بينكم ليس حبا جسديا لكنه حب روحانى إلهى . 

       لذلك عليكم أن تعرفوا أن الله يحب خلائقه بصورة دائمة , لأنه خلقهم بجوهر خالد , و قد رأى الله كيف أن الطبيعة العاقلة قد إنحدرت كلية إلى الهاوية , و ماتت كلية , و أن ناموس العهد الذى فيهم قد جف و توقف . و من صلاحه افتقد البشرية بواسطة موسى . و أسس موسى بيت الحق  و أراد أن يشفى الجرح العظيم و أن يرجعهم إلى الإتحاد الأول , و لكنه لم يستطع أن يفعل هذا فابتعد عنهم . ثم أيضا جوقة الأنبياء الذين بنوا على أساس موسى و لم يستطيعوا أن يشفوا الجرح العظيم الذى لأعضائهم . و لما رأوا أن قواهم خارت اجتمع أيضا شعوب القديسين بنفس واحدة و قدموا صلاة أمام خالقهم قائلين : ” أ ليس بلسان فى جلعاد ؟ فلماذا لم تعصب بنت شعبى ؟ داوينا بابل فلم تشف دعوها و لنذهب كل واحد إلى إرضه ” ( إر 8 : 12 و 51 :9 ) .

    ان كان قد نال يعقُوب هذا اللقب إسرائيل بأمر إلهي، لأنه جاهد مع الله والناس وغلب، وكلمة: إسرائيل تعني يملك كالله، أما إسرائيل الجديد، فيقدم ملُوكاً حقيقيين لا يملكُون على الزمنيات فقط، إنما ينعمُون بشركة المجد الإلهي، جعلنا ملُوكاً وكهنة لله أبيه..

   ولهُم التبنيّ: بمعنى أن الله اشتاق أن يتبناهم له ليكُونُوا كأهل بيته وخاصته، فعندما دعي الله مُوسى للعمل وسط شعبه قال له: فتقُول لفرعُون هكذا يقُول الرّب، إسرائيل ابني البكر، فقلت لك أطلق ابني ليعبدني فأبيت أن تطلقه، ها أنا أقتل ابنك البكر (خر22:4).. 

      وعندما قدم الله لشعبه وصايا تميزهُم عن الوثنيين، وحين أعلن الله خلاصه لهُم عند رجُوعهُم إليه، لكن إسرائيل لم يستطع أن يُمارس البنوة لله، بل مارس العصيان غير مُقدم له كرامة الأبوة،  لذا احتاج إلى تغيير شامل لقلبه وطبيعته بسكنى رُوح التبنيّ فيه، فيُمارس بنُوته لله ويحق له التمتع بالميراث مع المسيح الابن الوحيد.. الذي رفضوه.

     يقُول الرسول بولس: فإن كنا أولاد فإننا ورثة أيضاً، ورثة الله ووارثون مع المسيح   لقد ظن اليهُود أنهُم كأصحاب للنامُوس هُم ورثة المُواعيد دُون سُواهُم، لكن الرسُول بلطف يكشف لهُم أن الأمم إذ نالوا رُوح البنُوة بالمعمُودية صارُوا ورثة الله، والرب قال: إن كثيرين سيأتُون من المشارق، والمغارب ويتكئُون مع إبراهيم، وإسحاق، ويعقُوب في ملكُوت السماوات، وأما بنُو الملكُوت فيطرحُون إلى الظُلمة الخارجية (مت11:8؛ 41:21)..

     قال الرّب: أولئك الأردياء يُهلكهُم هلاكاً ردياً، ويُسلّم الكرم إلى كرامين آخرين يُعطونه الأثمار في أوقاتها، فإن كان الرُوح القُدس يهبنا الميراث كأبناء لله، نرث الله مع المسيح، فإن هذا الميراث هُو عطية، وهبة مجانية لا فضل لنا فيها، لكنها لا تُقدم للخاملين، بل للجادين في الشركة مع المُخلّص، والذين لهُم شركة في آلامه يتمتعُون بشركة أمجاده أيضاً..

   ولهُم المجد:وكان علامته، ظهُور عمُود السّحاب، والنار في البرية وفي الخيمة، والهيكل (خر34:40؛ 1صم21:4)، وكان وجُود تابُوت العهد علامة وجُود المجد الإلهي، أما إسرائيل الجديد فصار المسيح نفسه هُو مجده، فيسكن وسط شعبه ويحل في قلُوبهُم، ويملأهم برُوحه القدُوس..

    ولهُم العهُود: إذ أراد الله أن يرفع مُؤمنيه، دخل معهُم في عهُود مُستمرة ليُقيم منهُم شعباً له، لكنهُم تجاوزُوها ونقضُوها، وخانُوا العهُود، راجع الكتاب (هو1:8؛ حز18:17)، لذا صار المُؤمنُون في حاجة إلي الالتقاء مع الله على مستُوى عهد جديد، يُعلن حُب الله العجيب..

+ ولهُم الاشتراع: إذ امتازُوا بنُوال الشريعة، لكنهُم لم يحفظُوها في حياتهُم العملية، بل حسبُوا كاسرين للنامُوس والوصايا..

  ولهُم العبادة: وقد جاءت الشريعة تقدم الكثير من الطقُوس، والنُظم الخاصة، وكانت في الحقيقة ظلاً للعبادة الرُوحية..

  ولهُم المُواعيد: خاصة المُواعيد التي تنبأ عن مجيء المسّيا المُنتظر، هذه التي اهتم الأنبياء بإعلانها من حين إلى آخر..

  ولهُم الآباء: إذ جاء إسرائيل من نسل الآباء البطاركة حسب المُوعد مثل: إبراهيم، وإسحق، ويعقُوب...الخ

ومنهُم المسيح حسب الجسد، يكفيهُم فخراً أن المسيح، كلمة الله الكائن على الكُل إلهاً مباركاً إلى الأبد، قد جاء مُتجسداً منهُم..

   هكذا جاء الحديث في بقية الإصحاح أشبه بدفاعه عن عدم سقُوط كلمة الله، أو مُواعيده للآباء، إنما هي تتحقق ليس حسب المفهُوم الحرفي الضيق الذي التزم به اليهُود، بل بالمفهُوم الرُوحي..

     حسب اليهُود أنفُسهُم أنهُم نالُوا خلال آبائهُم وعداً إلهياً أبدياً أنهُم شعب الله هذا الوعد لم يسقط عبر الأزمنة، والرسُول بُولس كمُؤمن بكلمة الله يُدرك أنها لن تسقط أبداً، إنما الخطأ ينصب في فهمهُم لكلمة الله، الذي يُقدم وعده لإسرائيل الرُوحي الحقيقي، لا لجنس مُعين بذاته مهما كانت تصرفاته، وإذ يعد إبراهيم بالنسل خلال إسحاق، فإنه يطلب النسل الرُوحي الذي له إيمان إبراهيم، وإسحق لا أولاد الجسد، ثم أن الله الذي اختار إسرائيل شعباً له من حقه أن يبسط ذراعيه لسائر الأمم أيضاً..

    يلاحظ حكمة الرسُول، وتمييزه في الحديث معهُم، فقد قدم إسحاق مثلاً للبنُوة لإبراهيم حقيقياً، لكنه لم يُولد حسب قُوة الجسد، أي النامُوس الطبيعي، إذ كان الأب شيخاً، والأم عاقراً، وإنما مُولُوداً حسب قُوة الوعد الإلهي، إذاً فنسل إبراهيم هُم الذين ينعمُون بالولادة لا حسب الجسد، وإنما حسب الإيمان والتمُسك بُوعُود الله ومواعيده رُوحياً..

+ هكذا نحنُ أيضاً نُولد بُواسطة كلمة الله في جُرن المعمُودية، باسم الآب، والابن، والرُوح القُدس، وهذا الميلاد ليس بقُوة الطبيعة، بل بقُوة وعد الله، (يو3:3؛ أف26:5؛ 1تي5:3؛ يع18:1؛ 1بط21:3)، من خلال الحُب الإلهي نحُو الإنسان، والرّب يُهدي قلُوبكُم إلى محّبة الله، وإلى صبر المسيح، إذن وعد الله قائم وكلمته لم تسقط..

+ لماذا قيل لأنه وهما لم يُولدا بعد، ولا فعلا خيراً أو شرّاً، لكي يثبت قصد الله حسب الاختيار، ليس من الأعمال بل من الذي يدعُو، قيل لها: إن الكبير يُستعبد للصغير؟! ألعل عند الله محاباة؟!

ليس عند الله محاباة، فالاختيار يقُوم على سبق معرفة الله غير المحدُودة فإن كان قد أحُب يعقُوب وعينه ودعاه، إنما لأنه سبق فعرفه أنه يقبل الدعُوة ويتجاوب مع محّبة الله، حتى وأن كان في قبُوله للدعُوة يتعرض للضعفات والسقطات، فالله يحبه من أجل نيته الصادقة والجادة عملياً، أما في رفضه لعيسُو فيقُوم على رفض عيسُو لله، وإصراره على مقاومته..

أراد أن: يُؤكد أن يعقُوب لم يتبرّر بسبب أعمال النامُوس، ولا بأعماله الصالحة الذاتية، لكن محّبة الله له، إنما تقُوم على نعمته المجانية.. 

+ والحديث هنا لا يقلل أبداً من دُور الإيمان في الجهاد، لكنه يُؤكد أن خلاص الإنسان لا يتحقق بالعمل الصالح خارج دائرة الإيمان، وأنه ما كان يمكن قبُول يعقُوب لو لم يبادر الله بالحُب أولاً، أما بالنسبة للخطية الجدية كان الاثنان يعقُوب، وعيسُو متشابهين، أما بالنسبة للخطية الفعلية فكانا مُختلفين، الأكبر يُستعبد للأصغر، فاليهُود يخدمُون الشعب الأصغر (المسيحيين)، وذلك بتقديم النبُوات والرمُوز لهُم عن المسيّا المنتظر..

+ إذ أعلن حُبه لخلاص بني جنسه، وحزنه عليهُم لأنهُم رفضُوا مُواعيد الله الصادقة، مُؤكداً أن كلمة الله لن تسقط أبداً، وإنما تتحقق الوعُود في إسرائيل الرُوحي الجديد، بدأ يُحدثنا عن اختيار الله للأمم كشعب له، وأنه ليس من حق الإنسان الاعتراض على تدبير الله وقضائه، مُؤكداً أن هذا الاختيار ليس بالأمر الجديد، إذ سبق فأعلن الله عنه بالأنبياء..

كان اعتراضاً قد أثير بقُوله أن الله أحب يعقُوب، وأبغض عيسُو وهما في البطن لم يعملا خيراً أو شراً، فماذا نقُول؟ ألعل عند الله ظلماً؟ أننا لا نقدر أن نُدرك ونفهم كُل أسرار حكم الله، وتدبيراته من كُل الجُوانب، فحكمنا البشري مُختلف عن حكم الله، كبعد السماء عن الأرض..

+ لأنه يقُول لمُوسى: إني أرحم مَن أرحم، وأتراءف على مَن أتراءف مُظهراً سُلطانه الإلهي في الحُب والرحمة والرأفة بالإنسان، إذ لا يُود هلاك الخاطيء مثل أن يرجع ويتُوب ويحيا، فالله بادر بحُب يعقُوب من جانبه، أما بغضه عيسُو، فجاءت ثمراً طبيعياً لجحُود عيسُو نفسه، وإصراره وعناده على عدم قبُول مراحم الله، الله حُب لكنه لا يُلزم الغير بقبُوله..

+ هل يتنافى هذا مع الوصية: تممُوا خلاصكُم بخُوف ورعدة ؟!
إن كانت رحمة الله ليست لمَن يشاء ولا لمَن يسعى، فلماذا يُقدم لنا الله وصاياه، ويطلب منا أن نقبله بإرادتنا ومشيئتنا الاختيارية؟! ولماذا يحثنا على الجهاد حتى النهاية قائلاً: الذي يصبر إلى المنتهى فهذا يخلُص؟!

+ لا يستطيع أحد ممن يقرأ الكتاب بفهم رُوحي، أن يتجاهل دُور الإنسان الإيجابي في تمتعه بالخلاص المجاني، وأن الله يُريد إرادتنا الحُرة مع سعينا الجاد، ولا يتجاهل دُورنا العملي، والكتاب المُقدس لا يفهم كأجزاء مُنفصلة مُستقلة، إنما يمثل وحدة واحدة كاملة متكاملة ..

+ غاية الحديث ليس تجاهل حرية الإنسان، إنما تأكيد دُور الله في خلاصنا، فهُو يعمل فينا، لا عن استحقاق من جانبنا، وإنما عن حبه وفيض رحمته كنعمة مجانية، ولكن بنعمة الله أنا ما أنا، ولكن لا أنا، بل نعمة الله التي معي (1كو10:15)، لنتحقق ماذا يعني هذا؟!

 إن الأمر ليس بخصُوص مَن يشاء أو مَن يسعى، وإنما بخصُوص الله الذي يرحم، فإن كُنا لا نشاء، ولا نسعى فالله لا يأتي ليُعيننا..

النتيجة النهائية: أن الأمم الذين لم ينالوا المُواعيد، ولا استلمُوا الشريعة ولم تكن لهُم معرفة إلهية قبل الكرازة بالإنجيل، لم يسعُوا في إثر البرّ، ولكن إذ جائتهُم الكرازة، أدركُوا البرّ الذي حسب الإيمان بالمسيح يسُوع، أما إسرائيل الذي له ميزات كثيرة، فإذ سعى في إثر نامُوس البّر، لكن خلال حرفيات أعمال النامُوس دُون رُوحها، ففقدُوا الإيمان واصطدمُوا بالسيد المسيح حجر الصدمة، وتحقق فيهُم قُول إشعياء النبي: ويكُون مُقدساً وحجر صدمةٍ وصخرةٍ لبني إسرائيل وفخاً وشركاً لسكان أورشليم، فيعثر بها كثيرُون ويسقطُون، فينكسرُون ويعلقُون، راجع (إش14:8)..

"إلى خاصته جاء،وخاصته لم  تقبله" ( يو 1: 11)
وقد جاء الكلمة المتجسد وسط هذه الخاصة، لكن خاصته لم تقبله. كان الرفض جماعيًا من رؤساء الكهنة والكتبة والفريسيين ورؤساء الشعب بل واشترك معهم أحد التلاميذ. وتحقق القول: "يبغضونني بلا سبب" (مز 39: 19؛ 69: 4). لقد صرخوا: "دمه علينا وع  لي أولادنا" (مت 27: 25)

 يقول القديس كيرلس الأورشليمي: سمع الرب صلوات الأنبياء واهتم الآب ألا يهلك جنسنا، فأرسل ابنه من السماء كشافٍ. يقول أحد الأنبياء: "يأتي بغتة السيد الذي تطلبونه" (ملا 1:3) إلى أين؟ "إلى هيكله"! يقول نبي آخر عند سماعه هذا: "على جبلٍ عالٍ اصعدي يا مبشرة صهيون... قولي لمدن يهوذا". ماذا أقول؟ "هوذا إلهك. هوذا السيد الرب بقوة يأتي" (إش 9:40، 10). والرب نفسه يقول: "ها أنا ذا آتٍوأسكن في وسطكم" (زك 10:2). لكن الإسرائيليين رفضوا الخلاص، لهذا "جئت لأجمع كل الأمم والألسنة" (إش 18:66). إذ "جاء إلى خاصته، وخاصته لم تقبله". إنك تجيء، فماذا تهب الأمم؟ "جئت لأجمع كل الأمم والألسنة، وأجعل فيهم آية" (إش 19:66). لأنه متى عُلقت على الصليب أعطي جميع جنودي ختمًا على جباههم.

يقول القديس يوحنا الذهبي الفم:    تأمل قول يوحنا: "إلى خاصته جاء"، ليس لأجل حاجة المسيح، لأنه مستحيل أن تكون الذات الإلهية محتاجة، لكنه جاء من أجل الإحسان إلى خاصته.

وقد جعل يوحنا ملامة هؤلاء اليهود أشد لذعًا عندما قال: "وخاصته لم تقبله"، ومع أن المسيح هو الذي جاء إليهم لمنفعتهم إلا أنهم رفضوه، ولم يفعلوا به هذا الفعل فقط، لكنهم أخرجوه إلى خارج كرمه وقتلوه.

"وأما كل الذين قبلوه، فأعطاهم سلطانًا أن يصيروا أولاد الله، أي المؤمنون باسمه"( يو 1: 12)

إن كان قد جاء إلى خاصته، لكن خاصته لم تقبله، فإنه في وسط هذه الخاصة وجدت قلة قليلة أمينة قبلته. هذه القلة طُردت من المجمع، وحرمت من العبادة في الهيكل، ونُظر إليهم كوثنيين، ليسوا من تلاميذ موسى، ولا هم أبناء لإبراهيم الخ. لم يدرك اليهود أن هذه القلة هي خميرة مقدسة لكنيسة الأبكار في السماء، موضع سرور موسى وتهليل إبراهيم ويعقوب؛ يخدمون الهيكل الجديد، ويتمتعون بمجمع القديسين والسمائيين.

إن كان الرب قد دعي شعبه في القديم "إسرائيل ابني البكر" (خر 4: 22)، فإن هذه الخميرة قد احتلت هذا المركز بصورة فائقة خلال البنوة لله، حيث يصيرون "شركاء الطبيعة الإلهية" (2 بط 1: 4).

خلق الله الإنسان لا ليخدمه، فهو ليس بمحتاج إلى خدمة بشرية، لكنه في حبه الفريد للإنسان يريد أن يجعل منه خاصته وأهل بيته. فقد "سار أخنوخ مع الله ولم يوجد، لأن الله أخذه" (تك 5: 24). بينما لا نعلم كيف أخذه، ولا إلى أين ذهب به، لكنه اختطفه ليكون معه على الدوام كأحد أفراد العائلة الإلهية.
         إن كانوا أبناء الله، إن كانوا قد خلصوا بنعمة المخلص، إن كانوا قد أُشتروا بدمه الثمين، إن كانوا قد وُلدوا من الماء والروح، إن كانوا قد عُينوا لميراث السماء، فهم بالحق أولاد الله.

"ورثة الله ووارثون مع المسيح". إنه لا يخشى أن يكون معه شركاء في الميراث، لأن ميراثه لا ينقص إن ناله كثيرون. بل يصير الوارثون أنفسهم ميراثًا له، ويصير هو بدوره ميراثهم. اسمع بأية وسيلة صاروا ميراثه: "الرب قال له: أنت ابني وأنا اليوم ولدتك. اسألني فأعطيك الأمم ميراثًا لك" (مز 2: 7، 8). اسمع بأية وسيلة يصير هو ميراثهم، يقول في المزامير: "الرب نصيب ميراثي، وكأسي" (مز15: 5). لنقتنيه وليقتنينا. ليقتنينا بكونه الرب، ولنقتنيه بكونه الخلاص والنور. ماذا يعطي للذين يقبلونه؟ "أعطاهم سلطانًا أن يصيروا أولاد الله، الذين يؤمنون باسمه" كي يلتصقوا بالخشبة ويعبروا البحر.

     يقول القديس أغسطينوس: لا تتعجب يا إنسان أنك تصير ابنًا بالنعمة، أن تولد من الله حسب كلمته. فالكلمة نفسه اختار أولاً أن يولد من إنسان لكي تولد أنت من الله حسب الخلاص، فتقول لنفسك: "ليس بدون سبب أراد الله أن يولد من إنسان، لكن لأنه حسبني ذا أهمية ولكي يجعلني خالدًا، من أجلي ولد كإنسان قابل للموت.

القديس أثناسيوس الرسولي: وأيضًا كما أن المسيح ابن حقيقي فإننا نصير أبناء عندما نقبل الروح القدس. يقول الكتاب: "إذ لم تأخذوا روح العبودية أيضًا للخوف بل أخذتم روح التبني" (رو 15:8)، وإن كنا بالروح القدس قد صرنا أبناء، فواضح أننا في المسيح دعينا أولاًد الله. "وأما كل الذين قبلوه فأعطاهم سلطانا أن يصيروا أولاًد الله" (يو 12:1).

       يقول القديس كيرلس الأورشليمي: لكن التبني في قوتنا أي "بإرادتنا"، إذ يقول يوحنا إن كثيرين "قبلوه، فأعطاهم سلطانًا أن يصيروا أولاد الله، أي المؤمنون باسمه". أي لم يكونوا قبل الإيمان أولاد اللُه إنما باختيارهم الإيمان تأهلوا لذلك.

      إنه ليس مثلكم أنتم الذين تستنيرون فتصيرون أبناء الله... إذ أنتم أبناء بالتبني كما هو مكتوب: "أما كل الذين قبلوه فأعطاهم سلطانًا أن يصيروا أولاد الله أي المؤمنون باسمه. الذين ولدواليس من دم ولا من مشيئة جسد ولا من مشيئة رجل بل من الله". حقًا إننا نولد من الماء والروح، لكن المسيح لم يولد من الآب هكذا. إذ في وقت عماد خاطبه قائلاً: "هذا هو ابني" (مت 17:3).لم يقل" صار ابني" بل "هذا هو ابني" معلنًا أنه "ابن" حتى قبل العماد.

    إن سألت: وما الذي ناله أولئك الذين قبلوا المسيح؟ أجبتك: هو قول يوحنا البشير: "وأما كل الذين قبلوه فأعطاهم سلطانًا أن يصيروا أولاد الله". ويصف البشير تلك العطايا الصالحة للذين قبلوا المسيح وبيَّنها بألفاظ قليلة بقوله: "وأما كل الذين قبلوه فأعطاهم سلطانًا أن يصيروا أولاد الله". إن كانوا عبيدًا أو أحرارًا أو وثنيين أو حكماء أو غير حكماء، أو نساءً أو صبيانًا، أو شيوخًا، أو أغنياء، أو فقراء أو رؤساء أو عامة، فكلهم قد تأهلوا لكرامة بعينها، فما الذي يكون معادلاً لهذا التعطف على الناس؟

ومع ذلك فإن النعمة لا ينالها الكل، إنما الذين يريدونها، والمجتهدون في امتلاكها، لأن ذلك في سلطان أولئك وُضع لهم أن يصيروا أولادًا، فإن لم يريدوا فلا تتبعهم النعمة ولا تعمل عملاً يخصها، لأن إعطاء النعمة هو من قبل الله، أما قبول الإيمان فهو للإنسان.

    يقول القديس يوحنا الذهبي الفم:    لماذا لم يقل: "جعلهم أبناء الله" بل قال: "أعطاهم سلطانًا أن يصيروا أولاد الله"؟ ليظهر أننا محتاجون إلى غيرة عظيمة كي نحفظ صورة البنوة التي انطبعت علينا في العماد، وذلك بأن لا يوجد فينا دنس أو وسخ. وفي نفس الوقت يظهر أنه لا يستطيع أحد أن يأخذ هذا السلطان منا ما لم نحن أولاً نحرم أنفسنا منه… لأنه من وهبنا هذه الكرامة في أيدينا أعظم وأفضل من الكل. وفي نفس الوقت يريد أن يظهر أن النعمة لا تحل على الإنسان بغير إرادته، بل تحل على الذين يرغبون فيها، ويتعبون من أجلها. فإنه في سلطان هؤلاء أن يصيروا أبناءه، حيث أنهم ما لم يختاروا هم ذلك لن تحل النعمة عليهم، ولا يكون لها فاعليتها فيهم.