سعيد عبد الحافظ
تحوّلت فرنسا، منذ أن بدأت موجات الهجرة المغاربية في السبعينيات والثمانينيات، إلى واحدة من أهم الساحات الأوروبية لجماعة الإخوان المسلمين. وجدت الجماعة أرضًا خصبة لزرع أفكارها، ثم جاء تأسيس اتحاد المنظمات الإسلامية في فرنسا (UOIF) عام 1983 ليكون المظلة الكبرى التي جمعت مختلف الجمعيات والمراكز الإسلامية ذات الصلة. هذا الاتحاد، الذي غيّر اسمه لاحقًا إلى «مسلمو فرنسا» عام 2017 تحت وطأة الضغوط الأمنية والسياسية، أصبح العنوان الأبرز لوجود الإخوان في فرنسا.
لم يقتصر النشاط الإخواني في فرنسا على واجهة واحدة. فمن خلال شبكة عنكبوتية متشعبة من المراكز الثقافية الإسلامية والمساجد الكبرى في باريس وضواحيها، وليون، وليل، ومرسيليا، وستراسبورغ، بنت الجماعة نفوذًا يتجاوز الصلاة والوعظ إلى التعليم، وجذب الشباب، والعمل الاجتماعي. ضاحية لوبورجيه شمال باريس، مثلًا، تستضيف الملتقى السنوي لمسلمي فرنسا، الذي يعد أكبر تظاهرة إسلامية في أوروبا، وقد تحوّل إلى منصة لترويج خطاب الإخوان بوجه ناعم ومقبول.
وعلى الرغم من أن الواجهة القيادية في فرنسا يغلب عليها الطابع المغاربي، فإن تأثير الكوادر المصرية ظل حاضرًا بقوة. فمنذ الثمانينيات، شاركت شخصيات مصرية مهاجرة في تأسيس شبكات UOIF وربطها بالتنظيم الدولي للإخوان، وكان من أبرزها عناصر على صلة مباشرة بإبراهيم الزيات في ألمانيا ومكتب الإرشاد في القاهرة. كما لعب أحمد جاب الله وطارق رمضان أدوارًا فكرية وتنظيمية ربطت باريس بمراكز القرار الإخواني العالمي. هذا التشابك المصري–الفرنسي جعل من فرنسا ساحة استراتيجية للتنظيم الدولي أكثر من كونها مجرد ملاذ ديني للجالية المسلمة.
وراء هذه المؤسسات تقف أيضًا أسماء قيادية بارزة، منها لطفي بن جامع، الرئيس الحالي لمسلمو فرنسا، وهو الواجهة الرسمية التي تتحدث باسم الجماعة وتُحاول تمرير خطابها بلغة "الاعتدال" والانفتاح، لكنه في الواقع يحافظ على خيوط الاتصال بالتنظيم الدولي. أحمد جاب الله، الأكاديمي التونسي الأصل، يعدّ "العقل الاستراتيجي" الذي صاغ كثيرًا من الرؤى الفكرية وربط باريس بمراكز التنظيم العالمي، كما شغل مواقع عليا في مجلس الشورى الدولي للجماعة. أما عمار لصفر، القيادي التاريخي، فقد أسّس لجذور النشاط الإخواني في فرنسا عبر إدارة UOIF والملتقى السنوي، وكان همزة وصل بين الأجيال الأولى من المهاجرين والمشروع السياسي للجماعة.
ويمثل التمويل العمود الفقري لبقاء هذه الشبكة. فالجمعيات تعتمد على تبرعات محلية من أبناء الجالية، لكنها استفادت أيضًا من دعم خارجي، خصوصًا من قطر وتركيا، في بناء المساجد والمراكز. إضافة إلى ذلك، تمتلك بعض الجمعيات أوقافًا وعقارات تدر دخلًا ثابتًا. هذا المزيج منح الإخوان في فرنسا قدرة على الاستمرار والتجذر رغم محاولات التضييق.
لكن الدولة الفرنسية لم تبق مكتوفة الأيدي. فمنذ هجمات 2015 الإرهابية في باريس، تغيرت المقاربة الرسمية بشكل جذري. الرئيس إيمانويل ماكرون أطلق عام 2020 خطته لمواجهة ما أسماه "الانفصالية الإسلاموية"، مؤكدًا أن جماعة الإخوان جزء من المشكلة لأنها تزرع فكرًا موازياً لقيم الجمهورية. تبع ذلك سلسلة من الإجراءات الإدارية لحل بعض الجمعيات، وتشديد الرقابة على التمويل الأجنبي، وإعادة ضبط علاقة الدولة بالجمعيات الإسلامية.
وجاء التأكيد الأبرز في تقرير رسمي لوزارة الداخلية الفرنسية صدر في 21 مايو 2025 تحت عنوان «الإخوان المسلمون والإسلام السياسي في فرنسا». التقرير حذّر بوضوح من أن الإخوان يعملون بأسلوب "التسلل الناعم" داخل المجتمع، ويستثمرون في التعليم والعمل الأهلي لبناء نفوذ بعيد المدى. وصف التقرير نشاطهم بأنه تهديد محتمل لـ"التماسك الوطني"، خاصة مع الضواحي التي تعاني من البطالة والتهميش.
في هذا السياق، تبرز علاقات الجماعة مع المنظمات الحقوقية ونواب البرلمان الأوروبي. فالجمعيات القريبة من الإخوان تستثمر خطاب "مكافحة الإسلاموفوبيا" و"الدفاع عن حقوق المسلمين"، وقد نجحت في إيصال تقاريرها إلى أروقة بروكسل وستراسبورغ. هكذا حوّل الإخوان فرنسا ليس فقط إلى ساحة دعوية، بل إلى منصة ضغط سياسي وإعلامي عابرة للحدود.
بالنسبة لمصر، التي صنّفت الجماعة تنظيمًا إرهابيًا منذ 2013، وهو العام الذي طُويت فيه الصيغة التي تأسست عليها منذ 1928، لكن استمرار هذا النفوذ في فرنسا ووجود "ملاذ مؤسسي" في باريس منح الإخوان مساحة للتحرك ضد الدولة المصرية، سواء عبر الإعلام الناطق بالفرنسية أو عبر المنظمات الحقوقية التي تقدم الجماعة على أنها "ضحايا الاستبداد". وهنا تظهر المفارقة الكبرى: مصر ترى في الإخوان تهديدًا وجوديًا، بينما فرنسا تتعامل معهم بوصفهم تحديًا اجتماعيًا–أمنيًا يمكن احتواؤه بالقانون.
خلاصة القول أن الإخوان في فرنسا يمثلون معادلة مزدوجة: شبكة ضخمة من المؤسسات والقيادات المتمرسة والتمويل المتنوع، وفي الوقت نفسه دولة باتت أكثر وعيًا بخطورة هذا الوجود وتضعه تحت مجهر الأمن والسياسة. إنها معركة باردة بين منظمات تعرف كيف تناور في الفضاء الديمقراطي، ودولة تحاول الحفاظ على قيم الجمهورية دون أن تتساهل مع من يسعى إلى تقويضها.