الأب جون جبرائيل الدومنيكانيّ
اللاهوت في مصر لا يمكن أن يُختزل في قاعات الدرس أو كتب المراجع، ولا في قلالي النسّاك المنعزلين عن صخب العالم وأنينه وصراعاته، لأنه يولد من الذاكرة. والذاكرة هنا ليست محفوظة جامدة في متحف، بل ذاكرة خطِرة، ذاكرة حيّة تفضح وتدين وتبشّر. إنها وجوه الشهداء في الكنائس المفخخة بقنابل الإرهابيّيين الذين لم ينشطهم تفسيرٌ متطرفٌ فحسب، بل أيضًا قرونٌ من حكوماتٍ مستبدّة. إنّها دماء الأبرياء في الميادين، صرخات السجناء خلف القضبان، وجوع البسطاء على أبواب المخابز. هذه الذاكرة ليست روايةً جانبيّة، بل هي نقطة البداية لفهم الإنجيل في مصر اليوم. المسيح لا يُعرف خارج هذه الجراح، لأنه هو نفسه المصلوب في جسد التاريخ.

اللاهوت المصري هو أيضًا لاهوت الرجاء. ففي كلّ مرّة ينغلق التاريخ، في كلّ مرة يُقال للناس: "لا أمل"، يُعلِن الإنجيل أنّ المستقبل لم يُغلق بعد. لم يُسدل الستار المسرح. القيامة ليست حدثًا من الماضي، بل أفقٌ مفتوح يبدّد الحتمية. من قلب السجون يُولد ترنيم جديد، ومن وسط المآسي يُزرع حلم الحرية. هذا الرجاء ليس تفاؤلًا ساذجًا، بل هو مقاومة ضد منطق الموت، وإصرار على أنّ الله يكتب تاريخًا آخر.

اللاهوت هنا هو لاهوت التأويل. النصوص لا تُقرأ بمعزل عن الحياة، بل في ضوء صرخات الناس. الخروج ليس قصّة قديمة، بل هو تجربة اللاجئين في القوارب الغارقة. المزامير ليست أبياتًا طقسية، بل أنين المسجونين الذين يكتبون على جدران الزنازين. الصليب ليس رمزًا بعيدًا، بل جسد كل معذَّب. القيامة ليست عقيدةً نظرية، بل ابتسامة الشباب الذين يحلمون بمستقبل لم يولد بعد.

لكن اللاهوت ليس تكرارًا لأوهام البشر. هو تخطٍّ للإسقاطات: يطهّر الإيمان من أن يتحوّل إلى انعكاسٍ لرغبات السلطة أو أدواتٍ للهيمنة. الله ليس إسقاطًا لرغبات الإنسان، بل سرّ يتجاوز كل إسقاط. الإيمان، حين يُختزل في قوميّة أو طائفة أو مصلحة، يتحول إلى صنم. واللاهوت مدعوّ أن يحطم هذه الأصنام.
اللاهوت المصري هو أيضًا قوة تحرير. ليس كلامًا منزوع الدسم، ولا خطابًا مطمئنًا للسلطات. هو صوتٌ نبوي يواجه الظلم، ويقف مع المظلومين. الدين، حين يصبح أداة تخدير أو تبرير، يفقد روحه. أمّا حين يُعلِن ملكوتًا يكسر السلاسل، يصبح نارًا تحرق الأكاذيب ونورًا يفتح الطريق.

الكنيسة في هذا اللاهوت ليست طائفةً منغلقة، بل جسدٌ منفتح. هي تتألّم بآلام الناس وتفرح بأفراحهم، تحمل صليبهم وتعلن رجاءهم. الانغلاق الطائفيّ أو القوميّ خيانة لإنجيل الملكوت. الكنيسة مدعوة لأن تكون علامة للملكوت، لا جدارًا للانعزال.

هذا اللاهوت يعرف أنّ الإيمان والعقل ليسا خصمين، بل حوارٌ مستمرّ. الإيمان هو خبرة حيّة بالاعتماد المطلق، والعقل هو نور التمييز بين الحق والزيف. من دون العقل، يتحول الإيمان إلى شعورٍ فرديّ هشّ. ومن دون الإيمان، يصبح العقل آلةً باردة تفقد البصيرة. اللاهوت المصريّ يحتاج أن يحافظ على هذه الجدليّة: إيمانٌ حيّ يلمس القلب، وعقلٌ ناقد يحرس الحقيقة.

الهويّة في هذا اللاهوت ليست قيدًا، بل جذرًا. اللغة المصريّة، الأمثال الشعبية، الأغنية التراثيّة، الفنون الشعبية — كلها ليست عراقيل أمام شموليّة أو جامعيّة الملكوت، بل جسور. الهوية حين تُرفَع إلى مطلق تتحوّل إلى صنم، لكنها حين تُطهَّر تصبح طريقًا للكونية. المسيح لم يُلغِ هويات التلاميذ، بل جدّدها وجعلها أبوابًا للكنيسة الجامعة.

الفن والفلسفة في مصر ليسا ترفًا، بل مساحات للوحي. الأغنية الشعبية قد تعلن رجاءً نبويا، المسرح الساخر قد يفكك أوثان السلطة أيًّا كان شعارها، لوحة جدارية على حائط قديم قد تكون أيقونة قيامة. اللاهوت هنا يستعير لغة الفن ليُعلن أنّ الروح يعمل خارج الحدود الطقسية والنسكيّة والأكاديمية، وأن الجمال طريق إلى الله بقدر ما هو النبوّة والعدالة.

وأخيرًا، اللاهوت المصريّ هو شهادة لمدينة الله ضدّ مدينة البشر. مدينة البشر تُبنى على حبّ الذات حتّى ازدراء الله، بينما مدينة الله تُبنى على حبّ الله حتّى بذل الذات. كلّ محاولة لتحويل الكنيسة إلى أداةٍ قوميّة أو إلى مؤسسة سلطة هي سقوط في مدينة البشر. الكنيسة، حين تظلّ وفية للإنجيل، تصبح عربونًا لمدينة الله: مدينة العدل، الرحمة، والرجاء، التي تحتضن كل الشعوب في وحدة الحبّ.

الأب جون جبرائيل الدومنيكانيّ