بقلم الأب يسطس الأورشليمى
صلُوا بلا انقطاع، كيف ننعم بالمُواعيد السابقة في حُب بلا حدود، وفرح في كُل حين؟! 
 
يجيب الرسُول بولس: "صلُوا بلا انقطاع ، اشكرُوا في كُل شيءٍ،لأن هذه هي مشيئةُ الله في المسيح يسُوع.." 
 
إن كانت الصلاة تعني الصلة، فالصلاة الدائمة تعني العلاقة المُستمرة مع الله، وإدراك وجُودنا في الحضرة الإلهية بلا انقطاع، في عبادتنا وعملنا وفي يقظتنا كما في أثناء نومنا، فإن كان العبرانيُون مُطالبين أن يظهرُوا أمام الرّب ثلاث مرات في السنة (خر17:23)، فكم وكم يحث الرسُول المُؤمنين بالله أن يطلبُوه على الدوام في العهد الجديد ؟!
 
لنهتُم بالأكثر بالرُوحيات ونتخطى حدُود الجسد ومطالبه، فنستمر في الصلاة بلا عائق بلا انقطاع، وذلك بالاشتياق، فالصلاة الدائمة إنما هي التهاب القلب المُستمر المُتزايد في حنين لا ينقطع نحُو الأبدية والسكنى مع الله إلى الأبد (مت21:17؛ 22:21؛ رو14:13).. 
 
وهذا الحنين يلتهب كلما خلع الإنسان ثُوب الدنس وارتدى بالرُوح القُدس الناري الحياة المُقدسة، منطلقاً من حياة الخطية إلى الحياة الفاضلة في الرّب التي تسحب الفكر والقلب والأحاسيس نحُو الإلهيات..
 
 اشكرُوا في كُل شيء، فالشكر كُل شيء هُو سمة السمائيين الذين يدركُوا الله كلي الحكمة والحُب، يشكرُونه من أجل صلاحه وتدبيراته الصالحة، والمُؤمن خلال الطبيعة الجديدة بالمعمُودية المُستنيرة، يشعر أنه مدين لأبيه السماُوي بكُل حياته، مدركاً أبُوته ورعايته الفائقة له..
 
 لا تطفئُوا الرُوح، أي نُوقف عمل استنارته فينا خلال مُقاومتنا له حقاً إن الرُوح لن يُفارقنا قط مهما أخطأنا، لكنه يحزن علينا وينطفيء عمله فينا خلال عدم تجاوبنا وتعاونا معاً..
 
عطية الرُوح القُدس مثل: سراج منير داخل البيت، فإن فتح الإنسان بابين مُتقابلين دخل تيار الهُواء بشدة وأطفأه في الحال، لهذا إن فتح إنسان باب فمه بكلمة إهانة ضدك، فلا تفتح أنت بابك بإهانة مماثلة فترد السب بالسب، لئلا يدخل في نفسك تيار هواء الحقد، ويُطفيء لهيب الرُوح المُشتعل في داخلك، ليفتح الشرّير بابه أمامك، لكنك في حكمة إذ تترك بابك مُغلقاً تبقى عطية الرُوح القُدس مُلتهبة في الداخل..
 
أما زيت هذا السراج فهُو أعمال الحُب، لأن الرُوح القُدس الناري يبقى عمله مُلتهباً فينا ما دامت أحشاؤنا تتجاوب معه بالحُب لله والناس، فاللصُوص عند سلبهُم بيتاً ما، إذ يدخلُونه يطفئُون السراج الذي فيه حتى يقدرُوا أن يُحققُوا غايتهُم وهدفهُم، وهكذا فإن عمل الشيطان الرئيسي عند اقتحامه قلب مُؤمن هُو تحطيم عمل الرُوح فيه حتى يسلبه حياته..
 
لاحظ حُبه، فهو يُصلّي بعد أن ينصح، ويُضيف الصلاة إلى رسالته، فيُقدم المشُورة وبعد ذلك يرفع الصلُوات، وكما أن الآب يُقدس هكذا أيضاً الابن والرُوح القُدس، فالتقديس هُو عمل الثالُوث القُدوس، وإن كان يُنسب على وجه الخصُوص للرُوح القدس، لأنه هُو الذي يهب حياة الشركة والاتحاد مع الله في ابنه، مقدماً لنا هذا العمل كسرّ غفران خطايانا وتقديس حياتنا الرُوحية والجسدية، وذلك في استحقاقات الابن الوحيد الذي قدم دمه ثمناً لتقديسنا، منطلقاً بنا إلى الآب القُدوس لنستقر في أحضانه..
 
فالرُوح القُدس: هُو رُوح القداسة وواهبها.. 
 
والابن: هُو الذي بذل نفسه ودفع الثمن الغالي..
 
والآب: هُو الذي يُريد تقديسنا مُرسلاً ابنه الحبيب إلينا..
 
لهذا ينُسب الكتاب عمل التقديس للآب، كقُول الرّب:
 
قدسهُم في حقك، كلامك هُو حقّ..
 
كما يُنسب للابن: ومنه أنتُم بالمسيح يسُوع، الذي صار حكمةً من الله وبراً وقداسةً وفداءً..
 
ويُنسب للرُوح القُدس: الله اختاركُم من البدء للخلاص بتقديس للرُوح وتصديق الحقّ..
 
إن الغاية من كرازته ورعايته وصلواته أن يرى شعب الله مُقدسين في الحقّ، لأجلهُم أقدس أنا ذاتي، ليكُونُوا هُم أيضاً مُقدسين في الحقّ.. 
راجع الكتاب المُقدس (يو19:17؛ 1تس23:5)..
 
ماذا كان هدف الرسُول بُولس من الصلاة ؟!
أن يحفظ هُؤلاء الثلاثة: النفس والجسد والرُوح، إلى مجيء الرّب، فقد أدرك الحاجة إلى إعادة تكامل الإنسان، الأمر الذي يتحقق في الحياة العتيدة فيتم اتحاد الثلاثة معاً ليرثُوا معاً خلاصاً واحداً بعينه..
 
الحياة المُقدسة ل   يست هدفاً لصلاة الرسُول فحسب، وإنما غاية  دعُوة الله نفسه لنا، لذلك يُقدم كُل إمكانياته الإلهية لتحقيق دعُوته لنا، إذ يقُول: 
أمينٌ هُو الذي يدعُوكُم الذي سيفعل أيضاً..
 
تطلع إلى إتضاعه، فهذه القداسة لا تتحقق لهُم بسبب صلاته عنهُم، وإنما بسبب دعُوة الله لهم، لقد دعاهم للخلاص، وهُو صادق فسيخلصهُم بالتأكيد لأن هذه هي إرادته (مت37:23؛ 1تي4:2؛ رؤ20:3)..
 
الله الذي يُريد أن جميع الناس يخلصُون، وإلى معرفة الحقّ يُقبلُون..
 
أن جهاد الراعي الحكيم لا في القدرة على البلاغة، إنما على دخُوله وسط أولاده الرُوحيين كواحد منهُم فتلتحم كلماته الكرازية بتقديم نفسه باذلاً كُل حياته من أجلهُم، وإن كان الله قد أعلن رعايته لأولاده بالحُب خلال الكرازة بالصليب، فإن هذه الكرازة يكُون لها فاعليتها حينما تلتحم برعاية الكارز أيضاً لهُم في الله، مقدماً نفسه لخدمتهُم في الرّب.. 
 
عمل إيمانهُم، تعب محبتهُم، صبر رجائهُم، هذه الأمُور الثلاثة تُمثل وحدة واحدة لا يمكن تقسيمها عن بعضها البعض، فإن كان الإيمان بكلمة الحقّ يدفع المُؤمن للعمل لحساب الملكُوت الأبدي، فإنه يفتح القلب بالحُب لله والناس، فيشتهي المُؤمن أن يحمل صبر المسيح الذي من أجل السرُور المُوضُوع أمامه احتمل الصليب مستهيناً بالخزي..
 
حقاً أنه تأتي الأبدية فيزول الإيمان، إذ نرى الله وجهاً لوجه، وينتهي الرجاء إذ ننعم بما كنا نترجاه ونأخذ الميراث، لكن تبقى المحبّة التي لا تسقط أبداً، هذه المحّبة التي قامت على أساس الإيمان، وانطلق لهيبها خلال الرجاء، وفي بقاء الحب الأبدي تكريم للإيمان وتتويج للرجاء، لذلك يثبُت الإيمان والرجاء والمحّبة، هذه الثلاثة ولكن أعظمهن المحبّة..
 
وكما أن الثلاثة فتية في النار تمتعُوا بالندى، هكذا أنتُم تنتعشُون في الضيقات، ليس من طبيعة النار أن تمطر ندى، هكذا ليس من طبيعة الضيق أن ينتج فرحاً، لكن الرُوح يُلطف الألم من أجل المسيح..
 
ليس شيء أكثر اتساعاً من قلب الرسُول الذي أحب كُل المُؤمنين بكُل غيرة، ولم تكن محبته جزئية، بل كان يُقدمها بكمالها لكُل أحد، فكان قلب معلمنا بولس يحتضن العالم كُله، متشبهاً بسيده.. 
 
حقاً إن المُؤمنين مُحتاجُون أن يرُوا رعاتهُم في وسطهُم يسلكُون معهُم برُوح البساطة والوداعة بعيداً عن رُوح السلطة والنفُوذ !!
 
ونحنُ نرى بُولس كحامل لسمات المسيح، الذي صار جنيناً في أحشاء العذراء مريم ليشارك الأجناء حياتهُم، وصار رضيعاً ليفرح به الرضع، ويقبلُوا صداقته فتنطلق ألسنتهُم الرُوحية بالتسبيح، وصار طفلاً ليرفع من شأن الطفُولة جاذباً إليه الأطفال كأصدقاء له..
 
هكذا إذ يرى معلمنا بُولس مخدُوميه كرضع يحتاجُون إلى حنُو الأم المُرضعة، لا يتقدم لهم فقط بهذا الفكر لكي يحتضنهُم ويقُوتهُم، وإنما صار كرضيع بينهم ليستريحُوا إليه (1تس7:2)..
 
إنها المحّبة التي تجعلهُم بلا لوم، إن كان غاية إيماننا هي الحياة المُقدسة في الرّب التي بدُونها لا نقدر أن نُعاين الرّب، ولا أن نُوجد فيه ومعه، لأن هذه الحياة عمادها وقوامها المحّبة، فإن كانت الحياة المُقدسة هي تمتع بالله والشركة معه وممارسة حياته فينا، لأن الله ذاته المحّبة، وفي مجيئه العظيم يعتز بسمة الحُب التي لأولاده، فيدعُوهُم للملكُوت المعد لهُم منذ إنشاء العالم من أجل المحبّة التي أظهرُوها في صغاره، بينما يحرم الأشرار من الملكُوت لأنهُم لم يحملُوا سمة الحُب، ولم يتشبهُوا بسيدهُم.. 
 
فالمسيحية في حقيقتها ليست مُجرد عظات وصلُوات وابتهالات، بل هي أحشاء ورأفة وحنان تفرح في سكب العطف واللطف على القلُوب المُتضايقة المغمُومة الحزينة، وتستر كثرةً من الخطايا..
 
 بعد أن صلى من أجلهُم طالبهُم بالصلاة من أجله، مُقدماً نفسه مثالاً حياً للخادم الحيّ الذي يعرف رسالته وغايته وهدفه، فعمله الرئيسي هُو الصلاة عن الآخرين، كقُول النبيّ صمُوئيل: وأما أنا فحاشا لي أن أخطيء إلى الرّب، فأكف عن الصلاة من أجلكُم، بل أعلمكُم الطريق الصالح المستقيم وفي نفس الوقت يطلب صلُوات شعبه من أجله، مدركاً حاجته إلى مساندتهُم خلال الصلاة، (1صم23:12)..