بقلم الأب يسطس الأورشليمى
لم تكن نار المذبح النحاسي في خيمة الاجتماع تخمد أبداً، فالذبائح توضع عليها باستمرار، وفي صباح كل يوم كان الكاهن يضع فوقه حطباً ليزيد به النار اشتعالاً، وهذه الذبائح ترمز إلى الرب يسوع الذبيحة الحقيقية الوحيدة وهو على عود الصليب، أما النار فتصف عقاب الله العادل للخطاة لقد أتى عقاب الله العادل الأبدي على الرب يسوع الذي ترمز إليه الذبائح أتى عليه كنائب عن الخطاة، إلاّ أنه هناك فرق بين الرمز، والمرموز إليه فالحيوانات كانت تشتعل فيها النار بعد أن تُذبح وتفقد الإحساس بالألم، أما الرب يسوع فاحتمل نار عقوبة الخطاة الكاملة قبل أن يموت..
وتنقسم التقدمات التي كانت تُقدم على المذبح النحاسي إلى قسمين:
أولاً: تقدمات إجبارية: وتشمل ذبيحة الخطية، وذبيحة الإثم..
ثانياً: تقدمات اختيارية: ذبيحة المحرقة، ذبيحة السلامة، وتقدمة الدقيق فالأولى: يُقدمها الشخص في العهد القديم كخاطيء لينجو من نتائج الخطية أما الثانية: فيقدمها كعابد للرب في أي وقت يشاء وقود رائحة سرور للرب وهذه الذبائح تتحدث بطريقة رمزية في غاية الروعة عن الرب يسوع..
أولاً: ذبيحة الإثم..
عندما كان الشخص في العهد القديم يرتكب خطايا معينة، ويرى نفسه مذنباً قد تعدى على أحكام الله وسلّب حقاً من حقوقه، وصار مديوناً له وعليه أن يُسدد الدين، كان يُقدم على المذبح النحاسي ذبيحة إثم عن ذنبه، حيواناً مذبوحاً حدد الله نوعه بحسب قدرة الشخص المالية، بهدف أن يتخلّص من الإحساس بالذنب وينجو من العقاب، فتفديه الذبيحة وتنوب عنه..
ثانياً: ذبيحة الخطية..
إذا أخطأ شخص سهواً في شيء من جميع مناهي الرب التي لا ينبغي عملها وعملت واحدة منها (لا1:4؛ 13:5)، فإنه كان يدرك أن السبب في ذلك يكمن في أن بداخله مصدراً للخطايا، أي الخطية الساكنة في الإنسان (رو20:7)، ولكي ينجو من العقاب يذهب ليقدم ذبيحة الخطية..
ثالثاً: ذبيحة المُحرقة..
حينما يرغب الشخص في تكريس حياته لله، والخضوع له في كل شيء فإنه كان يُقدم على المذبح النحاسي ذبيحة مُحرقة، (لا1:1-17؛ 8:6-13) وكانت تُحرق بكاملها على المذبح، بعد أن يضع يديه على الذبيحة ويقف يراقب الكاهن وهو يضع الحيوان المذبوح وتشتعل فيه النار، وحينما تصير الذبيحة رماداً يعني أن الله قد قبلها، وقبل خضوعه وتكريسه، وكان يُرش دم الذبيحة على المذبح، وعلى هذا الأساس كان الله يقبل تكريس الشخص..
رابعاً: ذبيحة السلامة..
إذا شاء الشخص أن يُعبّر لله بفرح عن شكره العميق لأمور قد فعلها له فيكون تعبير أنه في سلام وشركة مع إلهه ومع أخوته، بذبيحة تُزيل العداوة التي سببتها خطاياه، ونلاحظ هنا: أن من الحيوان المذبوح كان جزء منه يُقدم إلى الله على المذبح والباقي يأكله الشخص وأصحابه، ولهذا أطلقت لقب المائدة، أنظر الكتاب المقدس (لا1:3-17؛ 11:7-38)..
هذه الذبائح تُشير إلى الرب يسوع الذبيحة الوحيدة الحقيقية، وكل منها يُشير إليه من زاوية معينة، أنظر (إش10:53؛ 2كو21:5)..
خامساً: تقدمة الدقيق..
إن أراد الشخص أن يُقدم لله نتاج حقله معترفاً أنه من يده، راغباً أن يزداد ويتبارك، عليه تقديم تقدمة الدقيق، فطيراً مصنوعاً من الدقيق النقي مسكوباً عليه زيتاً، ومضافاً إليه لباناً، تتصاعد منه رائحة عطرة ذكية عندما تقترب إليه نار المذبح، إشارة إلى رائحة وعطايا الله الذكية في عيني الفرد لأنه لا يمكن للإنسان أن يتمتع ببركات الله، قبل أن يُزيل سبب الخطية..
تُسمى تقدمة قربان وليس ذبيحة، وكلمة: قربان جاءت من كلمة: يقرب أو قرب قربان، فهو يقترب به إلى الله، والدقيق هو الطعام الأساسي لكل البشر، ومصدر الحياة ويرمز إلى الناسوت، أنا هو خبز الحياة (يو35:6)..
ذبيحة الإثم ترمز للرب يسوع في حمله لآثامنا (إش10:53)..
ذبيحة المُحرقة ترمز لطاعة الابن للآب حتى الموت (في8:2)..
ذبيحة السلامة تُشير بموته أزال العداوة وجعلنا في سلام مع الله، أنظر الكتاب المقدس في هذه الشواهد (أف14:2؛ 2:5؛ كو20:1)..
أن حب الرب للإنسان، هو حب شخصي لكل فرد، ففي مثل الخروف الضال، نرى الراعي الذي يُفتش ويبحث عن خروف واحد، وفيلبس المُبشّر يُقابل شخصاً واحداً ليبشره بيسوع، وبولس الرسول يقول: الذي أحبني وأسلم نفسه لأجلي، أنظر (لو4:15؛ أع26:8-35)، وهكذا يمكن لكل أحد أن يقول: لو كنت أنا الشخص الوحيد الخاطيء في العالم كله المُحتاج إلى الخلاص، لفعل الرب بكل تأكيد ما فعله، وذهب إلى الصليب ليتحمل نفس الآلام التي أحتملها ليُذبح عني ويُنجيني من الهلاك ويُعطيني الحياة الأبدية..
لقد أطلق على الرب يسوع لقب الخروف في سفر الرؤيا 27 مرة، فنقرأ عن غضب، وترنيمة، وعرش الخروف (رؤ14:2؛ 14:7؛ 3:15؛ 1:22) وهكذا في إنجيل يوحنا البشير، نرى الخروف مُتألماً ومذبوحاً، أما في سفر الرؤيا فنراه ممجداً ومعبوداً بعد أن قام من الأموات ظافراً منتصراً، خروفاً له سبعة قرون وسبع أعين (رؤ6:5)، والقرون تتحدث عن قوته وقدرته، أما العيون فعن بصيرته وحكمته، ورقم 7 هو رقم الكمال إشارة إلى لاهوته فهو الخروف الظافر المنتصر، والأسد الغالب القائم من الأموات بالنسبة للأعداء، وفي نفس الوقت الخروف المحبوب الوديع بالنسبة لأولاده الذي يتفهم ضعفاتهم وقريب جداً لقلوبهم، والذي فيكم أعظم من الذي في العالم، أنظر (1كو27:1؛ 2كو10:12؛ غلا20:2؛ عب15:4؛ رؤ5:5)..
رأينا كيف تُشير كل ذبائح العهد القديم المتنوعة إلى الرب يسوع وهو على الصليب، أنه الذبيحة الوحيدة التي فيها كل الكفاية لإزالة كل نتائج آثامنا وخطايانا، فماذا يُشير المذبح النحاسي الذي يُقدم عليه الذبائح ؟!
لقد أشار الرب على المذبح حينما قال: أيهما أعظم القربان أم المذبح الذي يُقدس القربان؟! فالمذبح هو الذي يُقدس القربان الذي يُوضع عليه وكلمة: يُقدس تعني تخصيص شيء للآلهة، فكل ما مس المذبح يكون مقدساً أي مخصّصاً لله، لذلك يقول الرب لأجلهم أقدس أنا ذاتي، ليكونوا هم أيضاً مُقدسين في الحقّ (يو19:17)، فالصليب هو المذبح الحقيقي الذي خصّصه لنفسه ليكون ذبيحة لله من أجل كل خاطيء، فالمسيح هو الذبيحة، والذبيح والكاهن أيضاً، أنظر الكتاب (عب11:9؛ 19:10؛ 1يو1:2)..
ما هو شكل المذبح النحاسي؟! وما هي المواد التي صنع منها؟ وأين موقعه داخل خيمة الاجتماع ؟! وما هي أبعاد المذبح ؟!
لم يكن المذبح مبنياً من الحجارة، بل كان شكله مميزاً، وهو عبارة عن صندوق كبير مجوف مفتوح من أعلى وأسفل، له جدران أربعة صنعت من الخشب ثم غُلفت بالنحاس، مقطعه خمسة أذرع في خمسة اذرع، وارتفاعه ثلاثة أذرع ويبرز منه لأعلى في الأربعة أركان أربعة قرون وعند منتصف نرى بداخله شبكة من النحاس القوي، منبسطة أفقياً بين الأربعة جدران..
كانت الذبيحة تُوضع على الشبكة التي في المنتصف لتُحيط بها النار من كل جهة، إشارة إلى نار الدينُونة المرعبة، والقضاء الإلهي على الخطايا، هذه النار التي سرت في كل كيان الرب يسوع وهو على الصليب..
فالذبيحة موضوعة على الشبكة داخل المذبح النحاسي، والشبكة تُقسم المذبح إلى قسمين: قسم متجه إلى أعلى، وآخر إلى أسفل، وهكذا الساعات الستة التي قضاها الرب يسوع مُعلقاً على الصليب تنقسم إلى قسمين:
ثلاث ساعات بسبب الآلام الجسدية والنفسية، حيث سخرية واستهزاء رؤساء الكهنة والجند به، أنظر (مت29:27؛ مر31:15؛ لو36:23).. وثلاث ساعات أخرى، وهي ساعات الظلمة الرهيبة التي جعلت الناس تبتعد عن الصليب، ليبقى الرب منفرداً يتقبل من الآب نيران دينونته العادلة..
نلاحظ أن: شبكة المذبح التي في المنتصف، تُقسم إلى قسمين متساويين قسم يتجه نحو السماء، وقسم آخر يتجه نحو الأرض، وإذا ما تأملنا أقوال الرب السبعة، فسنجد ثلاثة منها نحو الآب، وثلاثة تتجه نحو البشر..
يا أبتاه، اغفر لهم، لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون (لو34:23)..
صرخ يسوع إلى الآب: إلهي إلهي، لماذا تركتني؟ (مت46:27)..
قال يسوع: يا أبتاه، في يديك أستودع رُوحي (لو46:23)، هذه هي الثلاثة أقوال المتجهة إلى الآب، أما الثلاثة أقوال المتجهة إلى الناس فهي:
نادى الرب اللص وقال: اليوم تكون معي في الفردوس (لو43:23)..
قال: يا امرأة (أمه) هُوذا ابنك، ويا (يُوحنا) هُوذا أمك (يو26:19)..
وإلى المحيطين بالصليب، قال: أنا عطشان (يو28:19)، ليؤكد أن آلامه حقيقية، أما صيحة النصرة العظيمة المتجهة إلى الآب، فقال: قد أكمل، فهو أكمل العمل الذي أرسله الآب من أجله، ونفس الكلمة تتجه إلى الناس وتقول لهم: أن ثمن فدائهم قد دُفع بالكامل على خشبة الصليب..
كما صُنعت جدران المذبح الأربعة من خشب السنط الذي تم تغليفه من الداخل والخارج برقائق النحاس، وقد حدد الله نوع الخشب الذي ينمو في الأماكن الصحراوية الجافة، ويتميز خشب السنط بالصلابة والقدرة على التحمل، وهو يُشير إلى الرب الذي لم ير فساداً، وقال: مَن منكُم يُبكّتني على خطية؟ فالرب يسوع لم يفعل خطية، ولم يعرف خطية، وليس فيه خطية فهو حمل بلا عيب ولا دنس، أنظر (يو46:8؛ أع28:2؛ 1بط19:1)..
أما النحاس فيتميز بمقاومته العالية للنيران، ودرجة انصهاره تفوق درجتي انصهار الذهب والفضة، المستخدمان في صناعة خيمة الاجتماع والنحاس يرمز إلى قدرة الرب على تحمل نار دينُونة العدل الإلهي..
أنظر في الكتاب المقدس (إش2:53؛ 1بط22:2؛ 1يو5:3)..