د. ماجد عزت إسرائيل 
منذ فترة وجيزة دار حديث ودي مع أحد الأصدقاء المحبين للبحث والدراسة، ولا سيما محاولة الربط بين ما ورد في الكتاب المقدس وما تكشفه العلوم الإنسانية الحديثة. ومن بين الموضوعات التي طُرحت في هذا الحوار "الشخصية النرجسية". وبما أنني درست جوانب متعددة من العلوم النفسية والسلوكية والاجتماعية، فقد وجدت من المناسب أن أعيد النظر في هذا الموضوع، محاولًا قراءته من جديد في ضوء الكتاب المقدس، واختصاره في هذا المقال البسيط للقارئ الكريم. وسوف نتوقف معًا عند بعض الأسئلة المحورية: ما هو مفهوم النرجسية كما صاغته دراسات علم النفس الحديث؟ وكيف توصّف شخصية الإنسان النرجسي في صفاته وطباعه؟ وهل يمكن أن نجد نماذج لهذه الشخصية في نصوص الكتاب المقدس؟ وإن وجدت، فهل رجع أصحابها إلى الله وصعدوا إلى "جبل التوبة"، أي عادوا من جديد إلى الطريق الصحيح؟ هذه التساؤلات سوف نحاول أن نجيب عنها عبر هذه السطور، في إطار مقاربة تجمع بين البعد النفسي والتحليل الكتابي.

  فعند قراءة الكتاب المقدس لا نجد مصطلح "النرجسية" بصيغته الحديثة، إذ إن هذا المفهوم تبلور في إطار علم النفس مع بدايات القرن العشرين. فقد استخدم سيجموند فرويد (Sigmund Freud، 1856-1939م) هذا المصطلح ليصف حالة الانغماس في حب الذات باعتبارها مرحلة مبكرة في النمو النفسي، قبل أن يتطوّر لاحقًا في أعمال عدد من المنظّرين. ومن أبرزهم هاينز كوهوت (Heinz Kohut، 1913-1981م) وأوتو فريدمان كيرنبرغ (Otto F. Kernberg، 1928-2006م)، وكلاهما من المدرسة النمساوية، حيث أسهما في صياغة مفهوم "اضطراب الشخصية النرجسية" الذي يتميّز بالتعالي، والحاجة المفرطة للإعجاب، وانعدام القدرة على التعاطف مع الآخرين. ومع أن الكتاب المقدس لم يستخدم هذا المصطلح، إلا أن جوهر النرجسية – أي تمركز الإنسان حول ذاته، وانشغاله بالمجد الشخصي على حساب الآخرين – حاضر بوضوح في بعض الشخصيات الكتابية التي جسّدت هذه السمات في مواقفها وخياراتها.
 
   فالملك شاول، كما يروي سفر صموئيل الأول، رفض وصايا الله وبرّر عصيانه، ثم امتلأ بالغيرة من داود حين هتف الشعب: «ضَرَبَ شَاوُلُ أُلُوفَهُ وَدَاوُدُ رِبْوَاتِهِ» (1 صم 18: 7). لقد مثّل شاول صورة القائد الذي لا يحتمل أن يتفوّق عليه أحد، فحاول التخلّص من داود ليبقى هو صاحب المجد ومركزه.أما أبشالوم بن داود فقد اعتمد على جماله وكاريزمته ليستميل الناس، وجلس عند أبواب أورشليم ليكسب قلوب الشعب:«وَكَانَ أَبْشَالُومُ يَفْعَلُ مِثْلَ هذَا الأَمْرِ لِجَمِيعِ إِسْرَائِيلَ الَّذِينَ كَانُوا يَأْتُونَ لأَجْلِ الْحُكْمِ إِلَى الْمَلِكِ، فَاسْتَرَقَّ أَبْشَالُومُ قُلُوبَ رِجَالِ إِسْرَائِيلَ» (2 صم 15: 6). وكذلك: «وَكَانَ أَبْشَالُومُ يُبَكِّرُ وَيَقِفُ بِجَانِبِ طَرِيقِ الْبَابِ، وَكُلُّ صَاحِبِ دَعْوَى آتٍ إِلَى الْمَلِكِ لأَجْلِ الْحُكْمِ، كَانَ أَبْشَالُومُ يَدْعُوهُ إِلَيْهِ وَيَقُولُ: مِنْ أَيَّةِ مَدِينَةٍ أَنْتَ؟ فَيَقُولُ: مِنْ أَحَدِ أَسْبَاطِ إِسْرَائِيلَ عَبْدُكَ» (2 صم 15: 2). ومن خلال هذه الشهادات يتضح أن شخصية أبشالوم اتسمت بحب الظهور واستغلال الناس والسعي وراء السلطة على حساب الشرعية، حتى تمرّد على أبيه محاولًا اغتصاب الحكم، فانتهى به غروره إلى الهلاك. ويظهر النموذج ذاته مع هيرودس الملك في سفر أعمال الرسل، إذ جلس في ثياب ملكية وقبل تمجيد الناس له قائلين: «فَصَرَخَ الشَّعْبُ:هذَا صَوْتُ إِلهٍ لاَ صَوْتُ إِنْسَانٍ!» (أع 12: 22). فلم يُعطِ المجد لله، فضُرب في الحال ومات. كما وبّخ السيد المسيح الفرّيسيين والكتبة قائلاً: «وَكُلَّ أَعْمَالِهِمْ يَعْمَلُونَهَا لِكَيْ تَنْظُرَهُمُ النَّاسُ، فَيُعَرِّضُونَ عَصَائِبَهُمْ وَيُعَظِّمُونَ أَهْدَابَ ثِيَابِهِمْ، وَيُحِبُّونَ الْمُتَّكَأَ الأَوَّلَ فِي الْوَلاَئِمِ، وَالْمَجَالِسَ الأُولَى فِي الْمَجَامِعِ، وَالتَّحِيَّاتِ فِي الأَسْوَاقِ، وَأَنْ يَدْعُوَهُمُ النَّاسُ: سَيِّدِي سَيِّدِي» (مت 23: 5–7). وهذه الآيات تكشف سمات قريبة جدًا من النرجسية: حب الظهور، وطلب الألقاب، والسعي وراء المراكز الأولى. ولأن المسيح أحبهم وأراد رجوعهم إلى التوبة، حذّرهم قائلاً: «وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الْكَتَبَةُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ الْمُرَاؤُونَ! لأَنَّكُمْ تُشْبِهُونَ قُبُورًا مُبَيَّضَةً، تَظْهَرُ مِنْ خَارِجٍ جَمِيلَةً، وَهِيَ مِنْ دَاخِل مَمْلُوءَةٌ عِظَامَ أَمْوَاتٍ وَكُلَّ نَجَاسَةٍ» (مت 23: 27). 
 
على أية حال، تكشف هذه الأمثلة، عند قراءتها قراءة أكاديمية، أن النرجسية ليست مجرد عرض نفسي حديث بل نزعة إنسانية قديمة، ارتبطت في النصوص المقدسة بالسلطة والوجاهة والبحث عن التقدير. وإذا كان علم النفس التحليلي يربط النرجسية بخلل في تكوين الأنا، فإن اللاهوت الكتابي يصنّفها ضمن خطيئة الكبرياء التي تقود إلى الانفصال عن الله والآخرين. وهنا يلتقي التحليل النفسي باللاهوتي، فكلاهما يؤكد أن الذات حين تتمركز حول نفسها دون مرجعية أسمى، تنزلق في مسار يقود بالضرورة إلى الانكسار والسقوط.

  والخلاصة، أن النرجسية، مهما منحت صاحبها بريقًا وسلطة، تنتهي بالسقوط لأنها تقوم على تمجيد الذات وإقصاء الآخر، بينما الاتضاع، الذي تجلّى في المسيح حين «وَضَعَ نَفْسَهُ وَأَطَاعَ حَتَّى الْمَوْتَ مَوْتَ الصَّلِيبِ» (في 2: 8)، هو السبيل إلى المجد والحياة الحقيقية. وعليه، فالطريق إلى الحياة والمجد الحقيقي هو الاتضاع لا التعالي. وهذا ما تلتقي عليه المقاربتان النفسية واللاهوتية معًا: الإنسان حين يعبد ذاته يدمّرها، وحين يضعها في طاعة الله تُرفَع إلى كمالها.