كمال زاخر
الأحد ٢٤ أغسطس ٢٠٢٥
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ما حييت لن انسى تلك الأيام البعيدة الدافئة التي عشتها في حضن كنيستي، الصغيرة نسبياً من حيث المساحة، المتسعة باتساع السماء في عطائها عبر خدام يجمعون بين البساطة والعمق والعطاء والحب، تقع في حي القللي، وهو حي له سماته الخاصة، يبدو كجزيرة مستقلة وسط احياء شهيرة، شبرا والسبتية وجزيرة بدران وبولاق ووسط البلد. لكنه احتفظ لنفسه بطبيعة تميزه، ربما لتكوينه الديموغرافي، فغالبية قاطنية قادمون من الصعيد، بحكم موقعه بالقرب من ـ أو قل لصيقاً ـ بمحطة مصر، محطة القطارات الرئيسية في العاصمة، وبالأكثر القطارات القادمة من الصعيد ـ الوجه القبلي من الجيزة لأسوان ـ أو ربما لوقوعه على مشارف الأسواق الشهيرة، السبتية، وكالة البلح، الفجالة، كلوت بك. حيث فرص العمل الأقرب والأوفر، وقتها، لذا كان سكانه، من جيل تلك الأيام من الكادحين الساعين ليضعوا اقدامهم فى دائرة الطبقة الوسطى، فاختاروا في غالبيتهم التجارة عملاً، الأمر الذي انعكس على طبيعة العلاقات بينهم، وسيج حولهم بسياج القبول المتبادل حتى لتخالهم آنذاك عائلة واحدة، على اختلاف الثقافات والأديان.
في هذه الكنيسة تشكل وجداننا، في مناخ عام، كانت الكنيسة فيه أحد روافد تشكيل الوعي، بجوار الكتاب والراديو والمدرسة والدفء العائلي، في توازن لم يشوهه الصخب، ولم تجد فيه الانحيازات البدائية الضيقة مكاناً، وعلى الرغم من التغيرات العنيفة، التي غشيتنا فيما بعد، بقى القللي محتفظاً بسمته وجوهره وخصوصيته.
ذكرت قبلاً الدور الذي لعبه الأستاذ جورج رمزي في فتح ابواب القراءة لنا، وكيف وفر لنا كتاب حياة الصلاة، وهو دور تكامل مع اسهامات خدام جيلي متعددي المواهب في تمايزات وضعتنا وسط كوكبة من المعلمين، منهم على سبيل المثال وليس الحصر، الاساتذة ـ مع حفظ الألقاب ـ المهندس باقي نمر ميخائيل بانضباطه وتدقيقه وحنوه، والأستاذ لطفي فهمي الحكاء البارع صديق القديسين والآباء، والاستاذ ميشيل ايليا الباحث الذي ينقلنا إلي دوائر المعرفة الموثقة ويشير إلى مراجعها، والأستاذ حنا يوسف اندراوس الذي يقدم لنا اعقد القضايا اللاهوتية والروحية الحياتية بلغة مفارقة للجمود والنمطية، أو قل بلغة شبابية معاصرة.
أي بستان هذا الذي غُرسنا فيه، ألم أقل لكم قبلاً أننا كنا محظوظين!!.
غير بعيد كان يقف ابونا يوحنا عبد المسيح ابادير، القادم لنا من شمال السودان بعد خدمة ممتدة هناك، والذي تأسس وعيه في جمعية اصدقاء الكتاب بأسيوط، حتي يمكنك أن تدعوه "فلاح الكتاب المقدس"، يحرث اسفاره ويعانق آياته، ويجول في اروقته، يعانق فيها المسيح، يتتبع بشغف قصة الفداء العظيم بين نبوات العهد القديم وتوثيقات العهد الجديد، يتوقف كثيراً أمام تطمينات الله لبنيه ووعوده الصادقة، يشدد الركب المرتعشة ويضع متاعب رعية المسيح علي المذبح الذى كان محل عشقه المختار.
بين يدي هذا الرجل كانت خطواتي الأولى في درب الوعي الكتابي والآبائى، كانت سني عمره تقترب من الثمانين، لكنه كان يتمتع بروح الشباب وبصوت جهوري ترتج له ارجاء الكنيسة حين يعظ، كنت ارافقه من الكنيسة لبيته، وفي منزله يسألني عنا قرأت فأخبره، "المرة الجاية تجيب معاك الكتاب اللى بتقراه" نجلس مجددا ومعنا الكتاب، ابدأ بالقراءة وينصت، ثم يشير إلي هل تعرف مصدر هذا الكلام، إفتح انجيل يوحنا ... إفتح سفر اشعياء ... إفتح رسالة بطرس الرسول... ويربط لي بين ما قرأته وبين ما مصادره في اسفار الكتاب المقدس، وهكذا اكتسبت منهجاً جديداً في استيعاب وفهم وتأصيل قراءاتي الروحية، ولما كانت أغلبها ـ وقتها ـ كتب أبونا متى المسكين، فقد جمعت بين الفكر الكتابي والفكر الرهباني لأكتشف معها أن ابونا متى كاتب ومفكر انجيلي قُح.
مازلت أذكر ذاك الكتاب الصغير، الذي صدر في ثلاثة اجزاء صغيرة ـ كتيبات ـ في أعوام 1965 و 1969 و 1971. ثم صدرت مجمعة في كتاب واحد "الخدمة" عام 1980، قرأته مجزءاً ثم مجمعاً، كانت القراءة الأولى متزامنة مع بدايات خدمتي في صفوف مدارس الأحد، وظني أنه مشتركاً مع كتاب "حياة الصلاة" كان سبباً رئيسياً في تتبع اصدارات دير أنبا مقار وحتى اللحظة. ومعهما وبشكل حثيث، بدأت ادرك عمق الكنيسة التي استطاعت بوعي وعمق أن تحول الكتاب المقدس إلى حياة معاشة عبر صلاة ممتدة يومية في ليتورجيتها، ما بين القداس والتسبحة، حتى أن أحد الآباء الكهنة قدم للمكتبة كتاب الخولاجى، الذي يضم القداسات الثلاثة، موقعاً علي آيات الكتاب المقدس، كلمة بكلمة وجملة بجملة، حتي يمكن أن نحسبه خولاجي بشواهد كتابية، ويحسب أحد دلالات انجيلية الكنيسة القبطية الأرثوذكسية.
كتاب "الخدمة" رغم صفحاته القليلة نسبياً يعد مرشداً للكنيسة وللخدام، كهنة وشمامسة ومدنيين في صفوف اجتماعات الشباب ومدارس الأحد، وهو ما سنطوف حوله فى لقاء قادم.