محرر الأقباط متحدون
صادفت، خلال الأيام القليلة الماضية، الذكرى السنوية الحادية والسبعون لوفاة خادم الله ألشيديه دي غاسبيري. للمناسبة ترأس نائب البابا العام على أبرشية روما الكاردينال بالدو رينا القداس الإلهي في بازيليك القديس لورنزو، وألقى عظة سلط فيها الضوء على الرؤيا التي تمتع بها هذا السياسي الإيطالي والذي كان رجلاً مؤمناً حقا، وأكد نيافته أن التحدي الحقيقي لا يتمثل في الاصطفاف السياسي أو السعي إلى الاضطلاع بدور قوي، بل يكمن في إيقاظ الضمير المسيحي والبعد المتسامي للإنسان.
استهل الكاردينال رينا عظته متوقفاً عند المواهب الدبلوماسية التي تمتع بها رجل الدولة الإيطالي دي غاسبيري، والتي كانت مرفقةً بروحانية عميقة، وهذا ما سمح له بأن يثابر في مهمته، مع أنه اختبر شخصياً قوة العدو، ومأساة الحرب الرهيبة، وصعود النازية، وتفكك الأنظمة الملكية في أوروبا. وقال نيافته إنه في زمنٍ كانت تفوح منه رائحة الهزيمة والموت، وفيما كانت إيطاليا بلداً منهزماً لا يملك أي مصداقية على الصعيد الدولي، لم يتردد هذا الرجل في دفع ثمن باهظ على المستوى الشخصي دفاعاً عن مبادئه، فاختبر الاعتقال والفقر والذلّ والخيانة والتآمر عليه الذي أدى إلى نهايته. وقد عرف كيف يجعل من المآسي التي عاشتها أوروبا آنذاك فرصة للولادة الجديدة.
تابع نائب البابا العام على أبرشية روما عظته، في الذكرى الحادية والسبعين لرحيل دي غاسبيري لافتا إلى أن هذا الأخير جعل التزامه السياسي ينضج خلال السنوات المظلمة بفضل المدة التي أمضاها في المكتبة الرسولية. وقد أدرك أن المسيحية لا يمكن أن تقتصر فقط على النطاق الشخصي الخاص، إذ يمكنها، لا بل يجب، أن تحدد الخيار الجماعي لشعب برمته. وكان بالتالي مقتنعاً تماماً بأنه يمكن أن تُقام ديمقراطية، بعد التجربة المقيتة للفاشية، يحركها الإيمان المسيحي وتكون موجّهةً نحو الخير العام والعدالة الاجتماعية والحرية.
واعتبر نيافته أن هذا الحدس الذي تميّز به السياسي الإيطالي الراحل يبقى آنياً بالنسبة لأوروبا وعالم اليوم، وقال بهذا الصدد إننا ندرك تماماً أن التحدي الحقيقي لا يتمثل في الاصطفاف هنا أو هناك، ولا في البحث عن النفوذ والسلطة، بل في السعي إلى إيقاظ الضمير المسيحي وتعزيز البعد المتسامي للإنسان الذي يُفسر على أنه دفعٌ مستمر نحو العلى، نحو كل ما هو حقيقي وحق ونبيل ومستقيم ومشرِّف. هذا ولفت نيافته إلى أن العالم يواجه اليوم خطر فقدان هذا البعد المتسامي، الأمر الذي يولّد الارتباك والضياع.
مضى الكاردينال رينا إلى القول إن دي غاسبيري آمن بالخلاص الذي صنعه المسيح، والذي يمكن أن يحفز البحث عن الخير العام وتعزيزَه، ويمكن أن يصبح ديمقراطيةً تترك فسحة لكرامة الإنسان وللتقدّم. من هذا المنطلق اعتبر نيافته أن عالمنا اليوم، المطبوع بتفاقم العنف والصراعات، يتطلب منا جميعاً أن نتحمل المسؤوليات وذلك أيضا في ضوء كلمة الله، وتعاليم البابا لاون الرابع عشر. وختم نائب البابا العام على أبرشية روما عظته مذكراً المؤمنين المشاركين في القداس بالكلمة التي ألقاها دي غاسبيري خلال مؤتمر السلام الذي انعقد في باريس في العاشر من آب أغسطس ١٩٤٦، وشدد فيها على أن أوروبا لا يمكنها أن تتّبع الإستراتيجيات التجارية البحتة للقوى الاقتصادية، لأنها مدعوة إلى إعادة اكتشاف نفسها، إلى إعادة اكتشاف جذورها المسيحية العميقة، وقوة الثقافة الإغريقية وقوة الإيمان المسيحي، وصلابة الأنسنة الليبرالية.