القمص منقريوس المحرقي
في صمتٍ مهيب، وعلى أجنحة التسبيح، تحتفل الكنيسة القبطية اليوم بواحد من أعظم الأعياد إلا وهو : عيد إصعاد جسد السيدة العذراء مريم إلى السماء. ليس العيد مجرد ذكرى تاريخية، ولا مناسبة طقسية عابرة، بل هو نافذة على الأبدية، وإعلان حيّ أن من أحبّ الله بكمال قلبه، ارتفع معه إلى المجد.
مريم… أم النور والسماء
منذ أن نطقت العذراء مريم بكلماتها الخاشعة: “هوذا أنا أمة الرب، ليكن لي كقولك”، كانت قصتها مع السماء قد بدأت. اختارها الله لتكون الهيكل الحي الذي يحل فيه الكلمة، والكرمة التي أزهرت لنا “عنقود الحياة”، المسيح يسوع.ولكن سرّ العذراء لا ينتهي عند الميلاد، ولا عند الصليب، ولا حتى عند القيامة… بل يمتد ليُعلن لنا اليوم كرامتها الفريدة، إذ حملتها الملائكة بعد نياحتها، وصعد جسدها الطاهر إلى السماء، حيث يلتقي الحب الذي بُذل بالحياة التي لا تزول.
سرّ الإصعاد: جسد على أبواب المجد
تروي تقاليد الكنيسة أن جميع الرسل اجتمعوا حول فراشها في لحظة نياحتها العطرة، وجعلوا الجسد في قبر مهيب على جبل الزيتون. ولكن السماء لم تسمح أن يبقى الجسد الذي حمل الحياة في تراب الأرض…بعد ثلاثة أيام، أضاء النور، وحمل الملائكة الجسد الطاهر، فارتفع حيث لا موت ولا فساد، لتظل العذراء شاهدة أبدًا أن من يسكن المسيح في قلبه، يجاور مجده في الأبدية.
البُعد الروحي للعيد
ليس إصعاد جسد العذراء مجرّد تكريم سماوي، بل هو بشارة رجاء لكل قلب متعب، ورسالة لكل مؤمن بأن الجسد البشري مدعوّ للمجد متى امتلأ بالنعمة. العذراء ليست فقط أم المسيح، بل أيقونة الكنيسة المؤمنة، التي تعبر من الألم إلى القيامة، ومن التراب إلى النور.فإنه عيد يذكّرنا أن الطريق إلى السماء يبدأ من هنا، من التواضع، من الطاعة، ومن حياة نقية تسكنها كلمة الله. فكما صارت مريم “سماء ثانية”، نحن مدعوون أن نصير “هياكل للروح”، ليكون لنا نصيب في مجد القيامة.
ألحان الفرح ودموع الحب
في هذا اليوم، تمتلئ الكنائس برائحة البخور وتراتيل التسابيح، وتعلو أصوات الشعب بأغنية الخلود:“السلام لكِ يا مريم، الحمامة الحسنة، التي ولدت لنا الله الكلمة، خلصتنا، وغفرت لنا خطايانا.”إنه عيد يجمع بين دموع المحبة وألحان الفرح… دموع لأن الكنيسة تذكر نياحة أمها الحبيبة، وفرح لأن السماء فتحت ذراعيها لتحتضنها.
يبقى عيد إصعاد جسد العذراء مريم إعلانًا صريحًا أن الحياة الأرضية ليست إلا معبرًا نحو الأبدية، وأن من أحبّ الله كما أحبّته مريم، سيجد طريقه مفتوحًا نحو النور الذي لا يغرب. في هذا العيد، لا نكتفي بالتذكار، بل نرتفع بالروح لنعاين حقيقة الخلود، مرددين مع الكنيسة عبر الأجيال:“السلام للهيكل المقدس، مسكن العليّ… السلام لمريم، السماء الثانية، التي حملت شمس البر إلى العالم.
وهكذا يظل عيد إصعاد جسد العذراء مريم علامة رجاء حيّ لكل مؤمن، وشهادة أن من عاش لله بتواضع وطاعة رفعه الله إلى مجده الأبدي. فكما حملت السماء أمنا الحنونة مريم، فهي تدعونا اليوم أن نفتح قلوبنا للنعمة ونتهيأ للقاء المسيح.كل عام وأنتم بخير، وبركة شفاعة والدة الإله تحفظ حياتكم وتملأها سلامًا ونورًا. فليكن هذا العيد مناسبة لرفع قلوبنا نحو السماء، وتذكيرًا لنا أن غاية حياتنا هي الاتحاد بالمسيح مصدر الحياة والخلود.صلوات أمنا الحنونة العذراء مريم، ليملأ الرب قلوبكم بالسلام والفرح الأبدي.
كل عام وأنتم بخير. بركة صلوات وشفاعة أمنا الحنونة العذراء مريم تكون معنا جميعًا وتحفظكم في سلام وفرح.