كمال زاخر
يتقدم إليكم الرهبان القاطنون بوادي الريان بطلب قبول الشكل الرهباني على طقس دير القديس أنبا مقار الذي يرأسه نيافة الحبر الجليل أنبا ميخائيل، على أن يكون علامة صلح وسلام. وتفضلوا بقبول خضوعنا في المسيح."
  (خطاب الأب متى المسكين ورهبانه لقداسة البابا كيرلس السادس)
 
قبل أن نتعرف على محاور سهرتنا مع الأب الراهب المشرف على بيت الخلوة، وحواره الممتد معنا، وكنا اربعة شباب، حتى تباشير فجر اليوم التالي، دعونا نتعرف على بدايات انتقال الأب متى المسكين ورفاقه، من وادي الريان إلى دير القديس أنبا مقار، والصلح الذي تم مع البابا (القديس) الأنبا كيرلس السادس، بعضها سردها الأب القمص صليب سوريال، مهندس المصالحة، في كتابه "أحداث كنسية عشتها وعايشتها"، صدر عام 1989، وكثيرها ورد في الكتاب الذي صدر عن الدير وأعده رهبانه وصدر عام 2008 وعنوانه "أبونا متي المسكين: السيرة التفصيلية" وتتطابق الأحداث في كليهما.
 
في العام (1969) يتوسط القمص صليب سوريال، وهو كاهن بالجيزة، خريج كلية الحقوق وله دراسات في القانون الكنسى، وقريب للبابا بالجسد، للصلح بين البابا كيرلس والقمص متى المسكين وينجح في ذلك بعد جهود دعمها الأنبا ميخائيل مطران اسيوط، ورئيس دير الأنبا مقار آنذاك، يوافق قداسة البابا والأب المطران على أن يذهب الأب متى المسكين ومن برفقته من الرهبان إلى دير الأنبا مقار. ويتم تغيير شكلهم الرهباني علي طقس ديرهم الجديد ـ نقل انتسابهم الرهباني إليه ـ بيد البابا البطريرك،  في 9 مايو 1969، الذكرى العاشرة لرسامة البابا كيرلس بطريركاً. 
 
حمل الرهبان امتعتهم القليلة ومعها نوافذ وأبواب المغائر التي كانوا يعيشون فيها، ولوازم مغارة الكنيسة وجهاز تقطير مياه، وتموينات الرهبان من البقول والاطعمة المحفوظة، حمّلوها على عربة، اعارتهم اياها، مجاناً، شركة "جابكو" والتي كانت تقوم بحفر آبار مياه في صحراء الفيوم، إلى ديرهم الجديد، تسبقهم أحلامهم بحياة جديدة أوفر حظاً من شظف العيش الذى عاشوه في مغائر وادي الريان، كانوا اثنى عشر راهباً مع معلمهم، ووجدوا بالدير عشرة رهبان أغلبهم من الكهول، وقد احسنوا استقبالهم بفرح، واعتبروا قدومهم استجابة لصلواتهم لله أن لا يدع الدير علي حالته وقد كاد أن يسقط على رؤسهم، وقد صارت مبانية، القلالى والاسوار، مليئة بالشقوق، ومهجورة.
 
أفاق الرهبان الوافدين على واقع صادم، فالرمال تكاد تبتلع أسواره، ولم يجدوا أماكن تكفي لسكنهم، والموجود لا يصلح للسكن وغير صحي بكل المقايس، لتبدأ رحلة معاناة جديدة، بدأت بإزالة الرمال من حول الاسوار وترميم القلالي، ولكن مشوار التعمير امتد لنحو خمسة عشر عاماً بلا انقطاع، كان ايمانهم أن الأسوار والمباني ترتفع ليس فقط بالحجر والمونة بل بالصلاة قبلها، وربما وحدها، بحسب تعبير الأب متى لرهبانة، كان مشوار تعمير الدير ملحمة شهدت تدخلات الله الفائقة التصور، في تدبير المعدات الثقيلة والمؤن اللازمة، وامتدت إلى استصلاح الاراضي وزراعتها وما استتبعها من مشروعات مرتبطة بالزراعة في دوائر الانتاج الحيواني والداجني، كانت خطة الرهبان الحفاظ على التراث الأثري للدير، وبناء مبان جديدة ، تتفق واحتياجاته وفق القواعد الهندسية والمعمارية المعاصرة، خارج حرم الدير الأثري، ونجحوا في ذلك.
 
اللافت الحرص على توفير مسكن صحي، للراهب، يتوفر فيه ضرورات الحياة بجوار مكان يمارس فيه عبادته ونذوره، ليصبح النسك اختياره بمحض ارادته وليس مجبراً عليه. وكانت القلاية تضم حجرة معيشة بسيطة متسعة للقراءة والدراسة، مكتب ودولاب حائط به رفوف تستوعب مكتبة مناسبة، ودورة مياه كاملة، ومحبسة، تمكن الراهب من الإقامة داخل قلايته لأيام دون الحاجة للخروج.
 
دعونا نعود "لسهراية" الشباب الأربعة والأب الراهب الأربعيني، الذي بادرنا بقوله أن حرص ابونا متي منذ اللحظة الأولي التي دخل فيها هذا المكان، تأكيد أننا رهبان قصدنا الرهبنة للرهبنة، وهي عنده اقصر وأفضل الطرق، للمدعو لها، للتعرف على الله ومقاصده دون أن تزاحمه أية أغراض أو تطلعات أخرى، وأن الدير هو موطن لقاؤنا بالله، وأنه آن للكنيسة أن تسترد ألقها، ووعيها باعادة التواصل مع زخم تعاليمها، وأكد غير مرة على الدور المحوري للإنجيل في حياة الراهب، بغير أن تأخذه المعرفة الإنجيلية لشهوة الخدمة خارج ديره، فهي لبناء جسور التواصل مع المسيح وحتى لا تغيب الأبدية عن عينيه للحظة.
لذا كان حرص ابونا الروحي، يقصد الأب متى المسكين، أن لا تنقطع صلة الراهب بالمذبح والليتورجيا التي تعد سر حياته، وأن يداوم على القراءة في سير القديسين وما تركوه لنا من شروحات وخبرات حياتية وعمق لاهوتي، لذلك استقدم معلمين متخصصين في اللغات التى دون بها الآباء الأول كتبهم وعظاتهم، وفي مقدمتها اليونانية القديمة، واستقدم لمكتبة الدير، إضافة إلى مخطوطاتها، أمهات الكتب ذات الصلة خاصة تلك التي تتناول القرون الأولى، قبل نيقية وبعدها.
 
العنصر الثالث كان الحرص على الموازنة بين التزامات الراهب ونذوره الرهبانية وبين عمله في الدير والذي يعد امتداداً لما عرف بعمل اليدين، وانعكس هذا على هندسة القلالي والتي يفصل بينها وبين بعضها مساحات توفر استقلالية الراهب في مناخ هادئ لا يشغله أو يشاغله، ويمتنع على غير الرهبان الدخول إليها، وأعاد الأب متى المسكين احياء تقليد "المائدة"، بحيث يجتمع الرهبان معاً لتناول غذائهم حول مائدة ممتدة، بينما يتناوب الرهبان قراءة سير القديسين وتعاليمهم أثناء الأكل، تماماً كما كان الأمر في الأديرة القديمة. وقد حرص الأب المشرف على تطبيق هذا الأمر بيننا في أيام تواجدنا هذه في الدير.
 
ونجح الدير فى أن يبقي رهبانه رهباناً بغير أية رتب كهنوتية، باستثناء نفر قليل منهم، لا يتجاوزون اصابع اليد الواحدة، بقدر احتياج الدير في اقامة القداسات والصلوات الليتورجية والطقسية.
ونجح أيضاً في أن يحد من الزيارات الخارجية للدير اذ حصرها في يومي الجمعة والسبت من كل اسبوع، وحتي فيهما لا يستقبل الدير حافلات كبيرة وتقتصر الزيارة على السيارات الصغيرة وبموعد مسبق، الأمر الذي انعكس على هدوء الدير ونظافته ورونقه.
 
وأوجز الأب الراهب مجمل ما قاله في تحديد العناصر التى تشكل منهج الدير ورؤيته: 
ـ الهيكل والمذبح (الصلاة). 
ـ المكتبة  (الوعي والتلمذة الفكرية).
ـ القلالي (الوحدة والعبادة).
ـ المائدة   (شركة المعيشة).
ـ مصادر عمل (الاكتفاء والتنمية).
 
بعد سنوات، الخميس 8 يونيو 2006، يرقد الأب متى المسكين بشيخوخة صالحة ويقدم برحيله درسه الأخير، بوصيته أن يدفن على غرار اسلافه في التراب، بجوارهم في مدفن (طافوس) الدير القديم، بلا أية مظاهر تفرقه عنهم، وقد نفذ ابنائه وصيته، فدفنوه كما أراد، ووضعوا فوق المكان صليب خشبي بسيط يحمل اسمه وتاريخ نياحته، شأن بقية الآباء حوله.
 
كانت اقامتنا بالدير فرصة لقراءة مركزة لبعض كتب الأب متى المسكين، والحوار حولها، بعضها كان مرتبطاً بالخدمة والبناء الروحي ومركزية الإنجيل في الكنيسة وبعضها كان مشتبكاً مع قضايا محل جدل، سنفرد لها لقاء تال، أو ربما لقاءات.