د. ماجد عزت إسرائيل
يُعد القديس حبيب جرجس (1876–1951م) من أبرز الشخصيات الإصلاحية في تاريخ الكنيسة القبطية الأرثوذكسية خلال القرن العشرين. فقد استطاع أن يجمع بين الأصالة الكنسية والروح الحداثية، مقدِّمًا مشروعًا متكاملاً للتعليم الديني والنهضة الكنسية. اتسم فكره بالمنهجية العلمية، حيث وظّف أدوات بحثية متنوعة مثل الاستبانة والمقابلة والملاحظة والاختبار، وهي أدوات غير مألوفة في الدراسات الدينية التقليدية آنذاك.
وقد تجلت مظاهر الحداثة في فكره من خلال تأسيسه لمدارس الأحد عام 1918م، وإعادة تنظيم التعليم الكنسي بالكلية الإكليريكية، وتطوير المناهج لتشمل دراسات لاهوتية ولغوية وتاريخية تتسق مع المعايير الأكاديمية الحديثة. كما اهتم بتبسيط التعليم للأميين عبر الاستعانة بالصور والرموز الكتابية والقصص الآبائية، وهو ما يعكس وعيًا بضرورة مخاطبة مختلف الفئات الاجتماعية. فلقد كان حبيب جرجس صاحب رؤية إصلاحية تسعى إلى مواجهة التحديات اللاهوتية والفكرية التي طرحتها الحركات التبشيرية الأجنبية في مصر آنذاك، وذلك من خلال صياغة خطاب أرثوذكسي واضح، متماسك، وعلمي المنهج. ومن ثمّ فإن فكره يمثل نموذجًا مبكرًا لتداخل اللاهوت والتربية الحديثة في مشروع نهضوي كنسي له أبعاد روحية وثقافية واجتماعية.
في صيف عام 1934م، وبعد أن تزايد نشاط الحركات التبشيرية المسيحية في مصر وانتشار بعض المفاهيم والتعاليم الخاطئة، رأت جمعية المحبة القبطية الأرثوذكسية ضرورة نشر تعاليم الكنيسة وشرح عقائدها، وخاصة الأسرار السبعة، بطريقة علمية وافية. وقد عهدت إلى العالم اللاهوتي حبيب جرجس، مدير المدرسة الإكليريكية وصاحب مجلة الكرمة، تأليف كتابه الشهير «أسرار الكنيسة السبعة». وبرهنت الجمعية على ثقتها في اختياره لما عُرف عنه من غزارة العلم وتمكنه في المواضيع اللاهوتية، مع قوة الحجة وسلامة الدليل، بالإضافة إلى حداثة منهجه في تنوع المصادر الكنسية واللاهوتية، العربية والأجنبية. ومن خلال هذه الدراسة استطاع حبيب جرجس أن يعبر عن امتلاكه أدوات الباحث العلمي في مجالات اللاهوت والتربية الكنسية.
أولًا: الاستبانة: اعتمد حبيب جرجس على أسلوب الاستبانة بمعناه العلمي الحديث، أي جمع المعلومات وطرح إشكالية الدراسة في صورة مجموعة من الأسئلة، ثم الإجابة عليها تبعًا للموضوع المدروس. من خلال هذا النهج التحليلي، أوضح العديد من المفاهيم اللاهوتية والطقسية، مبرزًا الفارق بين تعاليم الكنيسة الأرثوذكسية وتعاليم الحركات التبشيرية الأجنبية. ولم يغفل حبيب جرجس الأميين، فاستحدث ما يُعرف بـ الاستبانة المصورة، المعتمدة على الرسوم التوضيحية والقصص الرمزية الواردة في الكتاب المقدس وسير القديسين والأمثال البسيطة، بما يسهل وصول الفكرة إلى غير المتعلمين. ومن أمثلة ذلك ما ذكره عن سر الكهنوت، حيث تحدث عن ضرورة «الوسم»، فقال: «إنه من اللائق بمن ينتدب إلى وظيفة أو يقبل سلطانًا أن يوسم بعلامة تميزه عن غيره، كما يرتدي الجنود والكهنة والملوك ملابس خصوصية يتميزون بها عن سواهم».
ثانيًا: المقابلة: سجّل حبيب جرجس في أبحاثه استخدام المقابلة كأداة بحثية، وهي أداة شائعة في الأبحاث النوعية والتاريخية، تقوم على التبادل اللفظي بين الباحث والمصدر. وقد ميّز بين أنماط المقابلة: المقيدة، المفتوحة، وشبه المقيدة. ومن تطبيقاته لهذه الأداة ما ورد في حديثه عن شروط إتمام أسرار الكنيسة، إذ استشهد بالقديس غريغوريوس الثالوغوس الذي قال: «كل واحد مستحق أن تصدقوا أنه يطهركم، ويكفيه لذلك أن يكون واحدًا من الذين أخذوا السلطان ليغفروا الخطايا… عندي خاتمان أحدهما ذهب والآخر من حديد، وعلى كل منهما الصورة الملكية نفسها، فاطبع بكل منهما طبعة على شمع، فبماذا تمتاز طبعة الواحد عن طبعة الآخر؟ إنها لا تمتاز بشيء…». كما استشهد بقول الرسول بولس عن الذين يقتربون من الأسرار المقدسة بدون استحقاق: «لأَنَّ الَّذِي يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ بِدُونِ اسْتِحْقَاق يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ دَيْنُونَةً لِنَفْسِهِ، غَيْرَ مُمَيِّزٍ جَسَدَ الرَّبِّ. » (1 كو 11: 29).
ثالثًا: الملاحظة: استخدم حبيب جرجس الملاحظة كأداة تفسيرية وتأملية في دراسة سير الآباء القديسين وفضائلهم، مستندًا إلى التتبع التاريخي والمراقبة الدقيقة. وفي كتابه أسرار الكنيسة السبعة لخّص أثر الأسرار قائلًا:«فبالمعمودية يولد الإنسان ولادة ثانية من فوق بالماء والروح، وبالميرون ينال نعمة حلول الروح القدس لتثبيته في الحياة الروحية، وبالشركة يقتات بالاتحاد بالمسيح، وبالتوبة ينال الشفاء من أمراض الخطية، وبمسحة المرضى ينال الشفاء الجسدي والروحي، وبالزيجة ينال نعمة الاقتران وتربية الأولاد التربية المسيحية، وبالكهنوت ينال موهبة الأسرار لتجديد الآخرين». وقد دعم رؤيته باستشهاد بالقديس توما الأكويني، الذي شبّه الأسرار بالحياة الطبيعية، حيث يولد الإنسان، ينمو، يشفى من أمراضه، ويعيش في جماعة تحت رئاسة شرعية، وهكذا تفعل الأسرار في الحياة الفائقة الطبيعة.
رابعًا: الاختبار: أما الاختبار فقد مثّل أداة أساسية عند حبيب جرجس، ويقصد به التجارب والمواقف الحياتية. وكان أبرزها تأسيسه مدارس الأحد عام 1918م، التي شكلت العمود الرئيسي لنهضة الكنيسة القبطية في القرنين العشرين والحادي والعشرين. ولأهمية هذه التجربة، دعا في نوفمبر 1941م إلى مؤتمر عام لمدارس الأحد والخدام العاملين بها، عُقد في نادي اتحاد الشباب القبطي. كان الهدف الوصول إلى إعداد الجيل الصاعد إعدادًا مسيحيًا متكاملًا يخدم الكنيسة والوطن والإنسانية.
في هذا المؤتمر قدم بحثين مهمين:
أولاً: تاريخ مدارس الأحد
ثانيًا: دور الكنيسة ومدارس الأحد في توجيه الثقافة القبطية والفكر القومي المصري
وقد صمّم المؤتمر بطابع علمي، حيث قُدمت فيه بحوث دينية وتربوية تستند إلى قواعد التربية الحديثة وعلم النفس التربوي، مؤكدًا أن تدريس الدين لا يجب أن يكون مجرد حشو للمعلومات، بل تدريبًا عمليًا للطفل على تطبيق المبادئ المسيحية في حياته اليومية.
الخلاصة: يظهر من خلال هذه النماذج أن القديس حبيب جرجس لم يكن مجرد واعظ أو لاهوتي تقليدي، بل كان رائدًا للحداثة التربوية واللاهوتية في الكنيسة القبطية. فقد استعمل أدوات البحث العلمي الحديثة، وطبّقها على التعليم الديني، مما أسهم في بناء جيل واعٍ، وربط النهضة الكنسية بالنهضة الوطنية، ليجعل من الإيمان المسيحي قوة فاعلة في حياة الإنسان والوطن.