أكرم ألفي
انطلق قطار "الحكمة السكانية" في مصر ليصل عدد السكان إلى 108 ملايين  نسمة في 16 أغسطس الحالي ليرتفع عدد السكان بنحو مليون نسمة خلال 287 يوماً أي 9 أشهر و17 يوماً مقابل 268 يوماً للمليون رقم 107 و250 يوماً للمليون 106.. ما سبق هو منطوق بيان الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء.

ولكن ما لا تنطق به هذه البيانات أنه في حال استمرار نفس معدل النمو السكاني لعام 2014 والذي بلغ أكثر من 2.4% فإن المليون رقم 108 كان سيستغرق 150 يوماً فقط، حيث وصلت مصر إلى المليون رقم 86 في أقل من 6 أشهر ولو كانت استمرت نفس المعدلات المسجلة قبل 10 سنوات فقط فإن الوصول للمليون كان سيستغرق 5 أشهر فقط وليس 9 أشهر و17 يوماً..

من هنا يجب أن نقر أن المصريين اقتربوا من الوصول أن لم يصلوا بالفعل إلى "الحكمة السكانية" التي تعني أن كل أسرة من زوج وزوجة أصبحت تدرك جيداً حجم قدراتها الاقتصادية والنفسية بل والوقت المتاح لتربية الأطفال وبالتالي فإن قرار الإنجاب تحول من رغبة في "العزوة" إلى قرار مسؤول بأهمية توفير البيئة المناسبة اقتصاديا واجتماعياً ونفسياً لتربية الأطفال.

يعتبرني البعض مبالغاً في مدح قدرات المصريين في تنظيم حياتهم بدون تدخلات فوقية ولكن الأرقام لا تكذب ولا تتجمل.. ففي 2014 كان معدل المواليد في مصر 31.3 مولود لكل ألف نسمة واليوم يبلغ معدل المواليد 18.4 مولود لكل ألف نسمة أي انخفض معدل المواليد بنحو 41% وهو معدل يزيد عن معدل انخفاض المواليد في السويد وألمانيا وبريطانيا وأمريكا وهنا افتح القوس إلى مال لا نهاية.. فبحسب البيانات المتوفرة فإن المصريين سجلوا أعلى معدل انخفاض للمواليد في العالم خلال السنوات العشر الماضية.. 

هل هذا تعبيراً عن دور المؤسسات في تنظيم الأسرة؟
 الإجابة بالنسبة لي بصراحة شديدة هي "لا".. لان هذا فوق طاقة أي مؤسسة رغم عدم انكاري لدور هذه المؤسسات من وزارة الصحة والمجلس القومي للسكان وغيرهم في توفير وسائل تنظيم الأسرة ودأبها في محاولة خفض معدلات النمو السكاني .. ولكن بيان الحكومة لا يتجاوز الدور المؤسسي إلى التفسير الاجتماعي فلماذا؟

اعتقادي أن المؤسسة الرسمية متأثرة بحديث المثقفين والنخب عن أن الأزمة الاقتصادية هي السبب في تراجع النمو السكاني وهو قول متناقض للنخب سواء داخل المعارضة او الموالاة.. فالأزمات الاقتصادية لم تدفع في أي دولة بالعالم إلى خفض النمو السكاني بل أن الفقر هو المسبب الرئيسي للزيادة السكانية غير الرشيدة من وجهة نظر المؤسسات الدولية وخبراء الديموجرافيا في العالم..

إن المؤسسة الرسمية عليها أن تنطلق إلى فهم حقيقة ما حدث وهو أن تراجع النمو السكاني كان عملية مركبة "ثورية" شهدها المجتمع المصري منذ ثورة 2013 أبرزهاه توسع التعليم الجامعي بشكل غير مسبوق ليصل عدد الطلاب إلى أكثر من 3.3 مليون في الجامعات المصرية وارتفاع معدلات تعليم الفتيات إلى جانب التحولات الاجتماعية بتراجع العمل في الزراعة لصالح العمل في القطاعات الخدمية وتقلص الريف لصالح المدينة.. التعليم والتمدين هما كلمتا السر وراء تراجع معدلات المواليد في مصر.

إن المصريين الذين ادركوا "الحكمة السكانية" بينما النخب تصرخ بشأن تخلف المجتمع ما هو إلا درس جديد عن أن المجتمع يدرك مصلحته بغض النظر عن رؤية النخب له كمجتمع متخلف ويحتاج للتربية والارشاد!!. 

لن اخوض في صراع ليس مكانه بشأن النظرة الفوقية للنخب موالاة ومعارضة للمجتمع ومحاولتها دائماً نقد المجتمع واعتباره سبب الأزمات فيما أنا من الذين يرون أن المجتمع المصري أصبح أكثر نضجاً مقارنة بالعقود السابقة ولكن تسليط الضوء على السلبيات يمنح للنخب القابعة في مكاتبها المبرر للجلوس في التكييفات وعلى شواطئ الساحل الشمالي لوضع خريطة ضبط وتربية المجتمع..

إن الحكمة السكانية التي وصل إليها المصريون لم تقتصر على القاهرة والاسكندرية بل وصلت إلى الصعيد.. فبعيدا عن جدل الصراخ عن أزمات الصعيد المجتمعية فإن اعلى معدلات المواليد في مصر كانت باسيوط 23.8 مولود لكل ألف نسمة وهو اقل بنحو 20% عن متوسط معدل المواليد في مصر قبل 10 سنوات، وتراجعت معدلات المواليد في اسيوط خلال 10 سنوات بنحو 30% وهي نسبة لم تصل إليها السويد خلال نفس الفترة..

في النهاية .. هل سيخرج أحد ليشكر المصريين ويوجه لهم التحية لإدراكهم الحكمة السكانية ومساعدة الدولة في حل أزماتها قبل أن يحدث هذا الأمر فإنني هنا ارجوا أن يتقبل القارئ تحياتي للمجتمع المصري فهو يسجل خطوات في التحديث والنضج المجتمعي اتعجب من عظمتها .. 

اخلعوا النظارة السوداء ولنرفع القبعة لمجتمع يعلمنا كل يوم بينما نحن نصمم على نعته بالتخلف والتمسك بمظاهر سلبية تشهدها كل بلدان العالم بما فيها اليابان لنعتبرها هي مرآة المجتمع..
نقلا عن المصرى اليوم