يوسف إدوارد

هناك فئة لا تراها إلا فى «المواسم الوطنية الكبرى»: أزمة سياسية، حدث طارئ، أو حتى إعلان عن مشروع حكومى جديد. فجأة، يخرجون من الظل مرتدين وشاح «الفُحولة الوطنية»، ويقفزون إلى المنصات كأنهم حصلوا على وكالة حصرية لتمثيل الوطن بالنيابة عن شعبه.

وجوه تعرف جيدًا كيف ترفع الصوت لا الفكرة، وكيف تضرب على الطاولة لا على جذور المشكلة. يطلّ أحدهم على الشاشة، يرفع حاجبه الأيمن بإيقاع استعراضى محسوب، يطلق بيانًا ناريًا من نوع «الوطن فوق الجميع»، ثم ينهى المشهد بنظرة أسطورية تصلح لملصق زعيم يفاوض التاريخ... بينما فى الحقيقة لا يتفاوض إلا مع الكاميرا.

 

تحاول أن تصغى فتكتشف أن المحتوى لا يتجاوز مزيجًا من الارتجال الصوتى والاقتباس الممل من أرشيف شعارات الثمانينيات، مع رشة دراما من مسرحية مدرسية. نحن أمام عرض متكرر بعنوان «الوطن فى خطر»، نفس النص، نفس الأبطال، نفس الصراخ... والجمهور يتغير فقط بين موسم وآخر.

 

إنها الوطنية المسرحية، التى لا تتغذى على التخطيط والعمل، بل على لحظات استدعاء الانفعال. وطنية تُستحضر عند اللزوم، ثم تُعاد إلى الأدراج حتى موسمها التالى. وطنية تُقاس بالديسبل لا بالمضمون، وتعتبر أى سؤال أو نقد خيانة، وأى محاولة للتفكير خارج النص جريمة.

 

هؤلاء لا يناقشون، بل يصرخون. لا يقدمون حلولًا، بل يلوّحون بالعلم فى وجه كل من يجرؤ على السؤال. الوطنية بالنسبة لهم ليست مشروعًا، بل بطاقة دعوة إلى «مهرجان الصوت العالي»، حيث الانتماء يُثبت بالصراخ لا بالفعل.

 

المشكلة أن هذا النوع من «الوطنية الميكروفونية» يبتلع المشهد، ويترك خلفه وطنيين حقيقيين لا يراهم أحد: طبيبة تعالج بلا ضجيج، معلم يزرع حلمًا صغيرًا فى عقل طالب، عامل نظافة يصارع الفوضى كل صباح، موظفة تبتسم وسط روتين قاتل، وشاب ينتظر دوره فى الطابور دون محاولة تجاوز. هؤلاء لا يحتاجون إلى لافتة تقول «نحن أبناء الوطن»، لأنهم يخدمونه بالفعل.

 

الوطنية الحقيقية ليست كبسولة صوتية سريعة المفعول، ولا معركة ضد المختلف، بل التزام يومى هادئ. هى مشروع حياة لا موسم للعرض. هى فعل متراكم ومستمر، لا ومضة مؤقتة تُستدعى عند اللزوم. من أراد خدمة الوطن، فليجلس على طاولة الفعل لا على مسرح الاستعراض.

 

 

ولنكف عن تعيين أنفسنا سفراء للوطنية فى كل نقاش، أو أوصياء عليها فى كل منشور، وكأن حب الوطن وظيفة شاغرة تنتظر من يملأها بالصوت العالى. فالوطن لا يُقاس بدرجات الصوت، بل بدرجات الوعى. ولا يحتاج إلى «فُحول تلفزيونية» بقدر ما يحتاج إلى رجال ونساء يعرفون أن محبة الوطن تبدأ من فعل صغير... لا من لافتة كبيرة.

 

لأن الوطن، ببساطة، ليس فقرة فى برنامج حوارى، ولا شعارًا على قميص، ولا نغمة نردّدها عند الحاجة. الوطن بيت. ومن يحب بيته، لا يصرخ فيه... بل يُصلحه، ويرتب غرفه، ويحسن معاملة أهله، بهدوء واتزان واحترام.

 

أما الذين يحوّلون الوطنية إلى مهرجان صراخ، فهم كمن يصرّ على رش العطر فى بيت جدرانه متشققة، معتقدًا أن الرائحة ستخفى الشقوق. المشكلة أن العطر يزول، والشقوق تبقى، والوطن فى النهاية يحتاج إلى من يرمم لا من يهتف.

 

 

الوطن لن ينهض بالصوت العالى، بل بالعقول الهادئة التى تعمل، وبالأيدى التى تبنى، وبالضمائر التى لا تنتظر كاميرا لتشهد. أما أولئك الذين يتزاحمون على المسرح وقت الأزمات ثم يختفون عند العمل الجاد... فليتهم يفهمون أن حب الوطن يُقاس بالإنجاز، لا بعدد الميكروفونات أمامهم.

نقلا المصرى اليوم