د. ماجد عزت إسرائيل
 الموت، الذي كان يُعتبر في كثير من الثقافات نهاية حتمية ومصدرًا للخوف، تغيّر مفهومه جذريًا مع ظهور المسيحية. فقد أصبح بداية جديدة وفرصة للخلاص الأبدي، مما أضفى على الحياة البشرية بعدًا روحيًا عميقًا يدعو المؤمنين إلى الأمل والرجاء.فمع ظهور المسيحية، حدث تحول جذري في مفهوم الموت، حيث انتقل من كونه نهاية مطلقة للحياة إلى اعتباره بداية جديدة وفرصة للخلاص الأبدي. يُنظر إلى الموت كـ"جسر ذهبي" يعبر به المؤمنون من الحياة الأرضية المليئة بالآلام إلى حياة أبدية في قرب الله،والملائكة، والقديسين. هذا التصور يعكس البعد الروحي العميق الذي أضافته المسيحية إلى فكرة الموت، إذ أصبح فرصة للتحرر من قيود العالم المادي والتوجه نحو النعيم الأبدي. فالقديس باسيليوس الكبير يوضح هذا التحول بقوله: "موت الأبرار صار رقادًا أي لا يُعد موتًا، بل صار هو الحياة". ولم يعد الموت يُنظر إليه كفقدان أو خسارة، بل كربح روحي، كما أكد الرسول بولس في قوله: "لأَنَّ لِيَ الْحَيَاةَ هِيَ الْمَسِيحُ وَالْمَوْتُ هُوَ رِبْحٌ". هذا الفهم يجعل الموت محطة مؤقتة على طريق الحياة الأبدية، حيث يُعتبر وسيلة لتحقيق الخلاص والاتحاد بالله.

 ويحمل الموت في الكتاب المقدس معاني متعددة تُبرز أبعاده الروحية المختلفة. كالموت الجسدي الذي يُشير إلى انفصال النفس عن الجسد وانتهاء الحياة الأرضية، في حين يعكس الموت الروحي انفصال الإنسان عن الله بسبب الخطيئة، مما يحرمه من النعمة الإلهية. أما الموت الأبدي، فهو الدينونة النهائية التي تُبعد الإنسان عن الله إلى الأبد ، كما ورد في سفر الرؤيا: "وَطُرِحَ الْمَوْتُ وَالْهَاوِيَةُ فِي بُحَيْرَةِ النَّارِ". هذا التمييز يُبرز أهمية العلاقة بالله ودورها في تخليص الإنسان من الموت الأبدي، كما قال القديس أنطونيوس الكبير: "الموت بالنسبة للذين يفهمونه خلود، أما بالنسبة للبلهاء الذين لا يفهمونه فهو موت".ويحث السيد المسيح على الخوف من هلاك النفس أكثر من الخوف من هلاك الجسد: "لاَ تَخَافُوا مِنَ الَّذِينَ يَقْتُلُونَ الْجَسَدَ وَلكِنَّ النَّفْسَ لاَ يَقْدِرُونَ أَنْ يَقْتُلُوهَا".

  ومع قيامة المسيح، تحوّل الموت من نهاية مرعبة إلى باب للحياة الأبدية، مما منح المؤمنين شجاعة وسلامًا لمواجهته. عبّر القديس أثناسيوس الرسولي عن هذا التحول بقوله: "بعد قيامة مخلصنا الجسدية، لم يعد يوجد سبب للخوف من الموت. الذين يؤمنون بالمسيح يدوسونه كأنه لا شيء".وبذلك أصبح الموت بداية جديدة مليئة بالرجاء والثقة في رحمة الله. وفي ضوء هذه الرؤية، كتب القديس كبريانوس رسالة تعزية خلال وباء اجتاح إيبارشيته، وصف فيها الموت بأنه "جسر ذهبي" يؤدي إلى الحياة الأبدية. شجع شعبه على الثبات في الإيمان ومواجهة الموت بأمل ورجاء. هذه الفكرة تعكس جوهر الطقوس المسيحية الجنائزية، التي تهدف إلى تحقيق الطمأنينة للأحياء والأموات على حد سواء، مؤكدة الرجاء في القيامة والحياة الأبدية. كما قال المسيح: «أَنَا هُوَ الْقِيَامَةُ وَالْحَيَاةُ. مَنْ آمَنَ بِي وَلَوْ مَاتَ فَسَيَحْيَا" .

  وتعكس الطقوس المسيحية الجنائزية الإيمان بأن الموت هو انتقال إلى بيت الله الأبدي، حيث يُذكَّر المؤمنون بوعد المسيح:"فِي بَيْتِ أَبِي مَنَازِلُ كَثِيرَةٌ...أَنَا أَمْضِي لأُعِدَّ لَكُمْ مَكَانًا".ومقارنة بالمفاهيم السابقة لظهور المسيحية، كان الموت يُنظر إليه غالبًا كأمر مجهول أو نهاية محتومة للحياة، لكن مع دخول المسيحية أصبح الموت مرحلة جديدة في خطة الله للخلاص، محفوفة بالأمل في حياة خالية من الألم والمعاناة. يقول بولس الرسول: "لأَنَّنَا نَعْلَمُ أَنَّهُ إِنْ نُقِضَ بَيْتُ خَيْمَتِنَا الأَرْضِيُّ، فَلَنَا فِي السَّمَاوَاتِ بِنَاءٌ مِنَ اللهِ، بَيْتٌ غَيْرُ مَصْنُوعٍ بِيَدٍ، أَبَدِيٌّ". بهذا الشكل، غيّرت المسيحية مفهوم الموت جذريًا، حيث أصبح بداية رحلة روحية نحو الحياة الأبدية، مما منح المؤمنين الشجاعة لمواجهته بثقة وإيمان عميق .

بهذا الفهم الجديد، لم يعد الموت نهاية مخيفة، بل تحول إلى لحظة عبور نحو النعيم الأبدي، مليئة بالثقة في وعد الله بالخلاص. قيامة المسيح من الموت كانت المفتاح الذي فتح أبواب الرجاء أمام المؤمنين، فجعلتهم يواجهون الموت بشجاعة وسلام، مستمدين قوتهم من إيمانهم بالحياة الأبدية.