د. ماجد عزت إسرائيل 

القداسة لغويًا تعني الطهر والبركة، والمصدر "قدس"يشير إلى الطهارة، التكريم، والبركة.
 
على مر التاريخ، ارتبطت القداسة بأشكال متعددة من الرموز والعناصر المقدسة التي شكلت محور عقائد الديانات. في مصر القديمة، تجلت مظاهر التقديس في بناء المعابد، إقامة الشعائر، وتخصيص أيام مقدسة لشخصيات استثنائية مثل الفرعون، الذي اعتُبر "واهب الحياة" و"النور الذي ينير للناس"، والإله وابن الإله.
 
أما في اللغة العبرية، تشير القداسة إلى "الانعزال"، بمعنى الابتعاد عن الخطية، كما جاء في الكتاب المقدس: "كَأَوْلاَدِ الطَّاعَةِ، لاَ تُشَاكِلُوا شَهَوَاتِكُمُ السَّابِقَةَ فِي جَهَالَتِكُمْ، بَلْ نَظِيرَ الْقُدُّوسِ الَّذِي دَعَاكُمْ، كُونُوا أَنْتُمْ أَيْضًا قِدِّيسِينَ فِي كُلِّ سِيرَةٍ"(١  بط ١ : ١٤ -١٥ ).
 
وفي اللغة اليونانية، تعني القداسة "الطاهر الموقر"، وهي كلمة ترتبط بالقوة والروحانية. ومع ذلك، فإن الكتاب المقدس يتجاوز هذه المعاني اللغوية، إذ يربط القداسة بالله ذاته، الذي هو المصدر الوحيد لكل طهارة وبركة. فالقداسة ليست مجرد حالة إنسانية أو رمزية، بل هي ارتباط وثيق بالله، وتمجيده في العالم من خلال حياة القديسين. فالقديس هو من يمجد الله ويُظهر صفاته من خلال حياته، فيرى الناس فيه انعكاسًا لصفات الله، مما يدفعهم إلى تمجيد الله. وهكذا، تعود القداسة لمصدرها، والمجد لصاحبه، وهو الله.
 
 وفي ضوء ما سبق عن مفهوم القداسة في اللغة والتاريخ، تتجلى القداسة في المسيحية كجوهر الإيمان وأساس الحياة الروحية. إذ يربط الكتاب المقدس القداسة بالله ذاته، فهو المصدر الوحيد لكل طهارة وبركة، مما يجعلها أكثر من مجرد حالة رمزية أو أخلاقية.
 
ففي المسيحية، القداسة ليست فضيلة مكتسبة بالجهد البشري، بل هي عطية إلهية يُمنحها الروح القدس للمؤمنين لتقديس النفس والجسد من خلال الأسرار الكنسية.
 
فالسيد المسيح، القدوس الذي بلا خطية، يُعد النموذج الأعلى للقداسة، ومنه تنبع دعوة المؤمنين إلى حياة الطهارة والبر.يدعو الكتاب المقدس المؤمنين بقوله: "لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: «كُونُوا قِدِّيسِينَ لأَنِّي أَنَا قُدُّوسٌ».""(١  بط ١ : 16 ) ، ما يجعل القداسة غاية روحية ملزمة، إذ إنها تعبر عن إرادة الله: "لأَنَّ هذِهِ هِيَ إِرَادَةُ اللهِ: قَدَاسَتُكُمْ" (١  تس ٤ : ٣ ).ومن هنا، تكتسب القداسة في المسيحية بعدًا فريدًا يتمثل في كونها دعوة للاتحاد بالله وتمجيده من خلال حياة المؤمنين التي تعكس صفاته الإلهية.
 
   وترتبط المعجزات في المسيحية بالقداسة كوسيلة لتثبيت الإيمان ودعم الكرازة: "شَاهِدًا اللهُ مَعَهُمْ بِآيَاتٍ وَعَجَائِبَ وَقُوَّاتٍ مُتَنَوِّعَةٍ وَمَوَاهِبِ الرُّوحِ الْقُدُسِ، حَسَبَ إِرَادَتِهِ" (عب ٢ : ٤ )..
 
ومع ذلك، فإن المعجزات ليست شرطًا للحكم على قداسة الفرد.فقد عاش العديد من القديسين حياة طهارة وقداسة عميقة دون أن يظهروا معجزات علنية، وكانت حياتهم بحد ذاتها شهادة قوية على إيمانهم.والقداسة كانت أيضًا السلاح الأقوى في مواجهة الوثنية، حيث جسدت حياة المسيحيين الطاهرة صورة الله بشكل فعّال، مما دفع الوثنيين للاعتراف بقوة تأثيرها. وهكذا، تُعد المسيحية ديانة القداسة أولًا والمعجزات بعد ذلك، إذ إن القداسة تعكس اتحادًا حقيقيًا بالمسيح القدوس، وتجعل حياة المؤمن شهادة حية لعمله الخلاصي.