كمال زاخر
الإثنين 11 اغسطس 2025
قبل أيام قليلة كنت في زيارة لدير أنبا مقار ببرية شيهيت، الإسم القبطي لوادي النطرون، وتعني ميزان القلوب، وجدته كما كان في زيارتي الأولى، الهدوء الذي يكاد المرء معه يظن أن لا أحد هنا، والذي ذكرني بلافتة صغيرة تستقبلك عند مدخل الدير "لا تطلب أن تتحدث مع راهب بعينه، هنا رهبان مهمتهم مرافقتك وخدمتك"، علي يمين المدخل مضيفة تستقبلك وتقدم لك وجبة تناسب توقيت الزيارة، يقوم بالخدمة فيها راهبان أو ربما ثلاثة.
يحيط الدير سور مرتفع، ليس مجرد جدار بل هو مجموعة من الحجرات يسكنها الرهبان، تشغل الدور الثاني، يسمونها "قلالي" ومفردها "قلاية"، وهي كلمة سريانية بمعنى حجرة أو غرفة، وتشمل جزئين، جزء خارجي، ويسمى مضيفة، به مائدة صغيرة، وربما كرسي أو اثنين، وجزء داخلي به سرير صغير وأرفف للكتب، وبعض حاجيات الراهب ويسمى محبسة، وفيه يمارس الراهب عبادته وصلواته. فيما يضم الدور الأول من السور مجموعة اماكن لاستراحة للرهبان واستقبال الزائرين، والمضيفة، وحجرات أخرى لخدمات واحتياجات الدير.
وقد صمم الجدار بهذا الشكل ليكون مصداً للرياح وما تحمله من رمال، بجانب استخدامه لسكن الرهبان. وهو سور مستحدث نسبياً أقامه الدير بعد إقامة الأب متى المسكين ورفاقه من الرهبان فيه عام 1969 ضمن منظومة شاملة لتعمير الدير.
لست هنا بصدد تقديم وصف للدير ومكوناته الأثرية والمستحدثة، حتي لا يستغرقنا العرض فيجور، بتفاصيله الثرية، على هدف سطوري أن احكي حكايتي مع الدير، والتي بدأت قبل سنوات طويلة، تكسر حاجز النصف قرن، حين خطوت خطواتي الأولى في خدمة مدارس الأحد، بكنيسة مار جرجس بالققلي، 1966، كنت وقتها طالباً بالمرحلة الثانوية، وكان أمين الخدمة وقتها الأستاذ جورج رمزي، وكان شغوفاً بالقراءة والثقافة شأن جيله من الخدام، وانعكس هذا على حرصه أن يضع اقدامنا على درب القراءة.
ذات يوم، ونحن لم نبرح ستينيات القرن العشرين، يوزع علينا كتاب "حياة الصلاة" باكورة كتب الأب متى المسكين، لم تكن قروشنا القليلة تقدر على شراءه، فوفره لنا بنظام التقسيط الذي امتد لنحو عام ونصف أو يزيد.
انفتحت أعيننا على عالم الآباء، واستغرقنا الكتاب لينقلنا إلى عالم مثالي يتماهي مع احلامنا في تلك المرحلة العمرية، فيما كنا نقرأ عن ماهية الصلاة وطبيعتها، وتصدمنا مصطلحات الهذيذ والتأمل والدهش وترتفع بنا إلى مجال مصطلحات رؤية الله والاتحاد به، كنا على الأرض نعيش طيف منها ونحن نصلي القداس الإلهي، ونطابقه مع ما طرحه الكتاب عن بيت الله والأيقونات والشموع والبخور والتسبيح بالمزامير والسجود، وفي سياق متصل كان الكتاب خير رفيق ونحن نواجه معوقات الصلاة بين الجفاف الروحي والفتور الروحي وحروب الفكر، وكيف نواجه كل هذا بتنقية القلب وتحرير النفس وانسحاق الروح والمثابرة وضبط الفكر، وكلها كانت عناوين لسطور مضيئة بهذا الكتاب.
كانت تلك مرحلة مؤسِسة لحياتنا الروحية ووعينا الحياتي، نعود إليها ونجتر مخزونها حتي اللحظة، وكانت الشرارة الأولى التي قادتنا للبحث عن اصدارات دير الأنبا مقار، وقتها، وكانت تدور بيننا حوارات ممتدة حولها، امتدت وتعمقت بعد تخرجنا فى الجامعة، بتعدد تخصصاتنا، وأذكر أن التليفون الأرضي ـ وقتها ـ كان يتحول عبر مكالمات ممتدة بيننا إلى أداة تتنقل عبرها أحدث قراءاتنا، والتى امتدت من كتب الدير إلي مدارات أخري موازية أو ادبية وثقافية، ومازلنا حين نلتقي مع رفاق المرحلة نتذكر تلك الحوارات الثرية والتي حملتنا فوق ضغوط ومتاعب وحروب مراهقتنا وشبابنا، وعبرت بنا منها سالمين فخورين. بل وامتدت حواراتنا فيما بعد عبر الخطابات المكتوبة، نتبادلها مع اخوتنا الخدام سواء على جبهة القتال، في سني حرب الاستنزاف وما بعدها، 1968 ـ 1976، أو مع اخوتنا الذين ذهبوا سعياً للعمل خارج مصر، كانت الخطابات اشبه بمحاورات ثقافية، انسانية وفكرية. أبداً لا تسقط من الذاكرة.
في غضون ذلك كانت تؤرقني الفجوة بين ما نقرأ ويحملنا إلى السموات العُلى، وبين واقع يئن من ثقل التراجع الفكري والحياتي وصراعات تتسلل أخبارها الينا من معاقل كنا نحسبها حصون المحبة والسمو، على اصعدة مختلفة، حَمَلتُ هذا الأرق والذى كاد أن يمزقني، وأفرغته فى خطاب ارسلته إلى الأب متى المسكين، ربما اجد عنده ما يهدئ قلقي ويرد لي سلاما كدت افقده، كان ذلك فيما اتذكر في مطلع تسعينيات القرن المنصرم، تلقيت بعدها بشهور رداً كتبه الأب يوحنا المقاري ـ الدكتور رؤوف جرجس قبلاً، والذي اصدر مجلة مرقس ورأس تحريرها، وكنت شغوفا بالمجلة في طوريها حين كانت تصدر للأطفال ثم للنشء والشباب ـ وقد وجدت خطابه بين أورراقي القديمة، فيما لم احتفظ بصورة من خطابي للأب متى المسكين.
واستأذن القارئ في أن أورد هنا نص خطاب الأب يوحنا المقاري، في غضون عام 1976 تقريباً.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الأخ المبارك الأستاذ / كمال
سلام ومحبة ربنا يسوع المسيح مع روحك متعشما أن تكون في ملء النعمة الغنية المفاضة علينا من القادر أن يحفظنا بلا لوم ولا عيب أمامه في المحبة وسط تجارب وضيقات هذا العالم.
وصل خطاب محبتكم الموجه لقدس أبينا الروحي الأب متى المسكين من مدة، وكلفني بالرد عليكم، ولكن لظروف خارجة عن إرادتي ووسط أوراقي الكثيرة والخطابات المتعددة وعدم ترتيبي الدقيق لها، لم أنتبه له إلا مؤخراً، فشعرت بالخجل لتأخري في الرد هذه المدة كلها فأرجو المعذرة.
الخطاب يفيض رقة ورصانة وأمانة في التعبير وغيرة على الحق وخلاص النفوس، مما يجعلني أحس أن الله الذي أعطاكم الاستنارة يطالبكم فعلاً بالبذل والعطاء على مستوى القدوة أولاً ثم الخدمة الهادئة المتزنة المقرونة بالصلاة من أجل النفوس التائهة في محيط ذا العالم وفي محيط عملكم وخدمتكم.
أما رد قدس أبينا الروحي فهو يرحب بكم في الدير مع صديقكم العزيز الأستاذ فايق رياض المحامي ـ وأما عن مقابلته فمتروكة لتدابير الله، فعلاوة على انشغالاته الكثيرة وفترات اعتكافه التي تتكرر بين الحين والآخر، فإن امكانياته الجسدية اصبحت لا تقدر على القيام بمسئوليات الشباب الخطيرة والكبيرة عن طريق الاتصال المباشر، هذا وإن قدسه يشير إلى أنه يوجد بالدير من يمكن أن يرشدكم من الآباء، ولكن على المستوى الفردي أيضاً وذلك بسبب الظروف التي نجوزها حالياً في الكنيسة.
ختاماً أرجو أن تتقبلوا محبتي لكم في المسيح يسوع ربنا. وسلام الرب يكون معكم.
كونوا معافين باسم الثالوث الأقدس.
الراهب
يوحنا المقاري
ملحوظة: حتى يتسنى لكم الدخول للدير، أود أن أنوّه على مواعيد الزيارة أنها الخميس والجمعة ـ فيما عدا أيام الأصوام الكنسية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ربما كان هذا الخطاب بداية لمرحلة جديدة في علاقتي ورفاقي بالدير، إذ شجعنا على أن نطرق ابوابه للزيارة، لينضم إلى باقي اديرة وادي النطرون، التي كنا نزورها بشكل دوري فيما قبل، وجدناه ديرا مختلفاً في هدوئه والتزامه بضوابط الحياة الرهبانية وتحديداً فيما يتعلق بنمط الزيارات، المحددة والمطبقة بشكل صارم، فلم يكن مسموحاً ـ وقتها ـ باستقبال الرحلات، والأعداد الكبيرة، وكانت الزيارات الفردية أو محدودة العدد، تتم عبر التواصل مع الدير مسبقاً للتصريح بها، لهذا احتفظ الدير بهدوءه ورونقه وانضباطه، وحمى ـ وقتها ـ رهبانه من الاختلاط بالزائرين، وما يحمله هذا من متاعب لهم وللزائرين، ووفر لهم المناخ اللائق واللازم للإلتزام بنذورهم الرهبانية، وبتأدية قوانينهم وما يسند لهم من أعمال بالدير.
كان من الطبيعي أن نلتقي بالأب يوحنا المقاري، وعبره نتعرف علي الأب كيرلس المقاري أحد علامات وأعمدة ورفقاء الأب متى المسكين، ولم يتح لنا ان نتقابل مع الأب متى المسكين، وبقيت علاقتنا به عبر كتبه وتسجيلاته الصوتية، التي تحمل عظاته، وكنا تواقين للتعرف علي مطبعة الدير وفيها نلتقي بالأب الراهب باسيليوس المقاري، الاستاذ يسري لبيب، قبلاً، مدير تحرير مجلة مرقس والمسئول عن طباعة كتب الدير، وهو شخصية ثورية تملك شجاعة المواجهة وطرح القضايا الشائكة والخلافية، بشكل جسور بحثي مدعوم وثائقياً، يقف خلفه تاريخ ممتد في مدارات التكريس والخدمة في بيت التكريس بحلوان، ثم الرهبنة بدير الأنبا مقار.
وله العديد من الكتب التي تتعرض لتأصيل التدبير الكنسي، لعل ابرزها "التدبير الإلهي في تأسيس الكنيسة، و "التدبير الإلهي فى بنيان الكنيسة"، و "السلطان الروحي في الكنيسة". وكتاب "ايماننا المسيحي" والذي صدر في جزئين.
وحين شرعنا في تأسيس التيار العلماني القبطي، كانت مشاركاته البحثية، في مؤتمرات التيار السنوية، لها ثقلها، ومناسبتها في التصدي لاشكالية المحاكمات الكنسية ببحث موثق ومتعمق كان عنوانه "التأديبات الكنسية في الكتاب المقدس والتقليد والقانون الكنسي".
ولعل الكنيسة ـ قداسة البابا تواضروس الثاني والأحبار الأجلاء مطارنة واساقفة الكنيسة، يلتفتون إلي ما طرحه الأب الراهب باسيليوس المقاري ففيه حلول جذرية لكثير من اشكاليات وأزمات ومعضلات الكنيسة، ولعلهم يجدون فيها ما يساعدهم على وضع نقطة في نهاية سطر طال من المتاعب والإخفاقات التي تحاصرنا.
وللحديث بقية.