الأب جون جبرائيل الدومنيكانيّ
رسم بورتريه صلاح جاهين للصديق الفنان فادي فرنسيس
الموت بصفته عدالةً قصوى... والعفن بكونه حقيقة كونيّة
قراءة فلسفية–لاهوتيةمع عبثيةألبير كامو لرباعية صلاح جاهين
ضريح رخام فيه السعيد اندفن
وحفرة فيها الشريد من غير كفن
مريت عليهم .. قلت يا للعجب
لاتنين ريحتهم لها نفس العفن
عَجَبِي!!!
أولًا: القراءة الفلسفيّة
١. الموت مساويًا أعظم
تضعنا الرباعية الثانية أمام مشهدين متناقضين ظاهريًّا — ضريحٌ فخم، وحفرة فقيرة — ليتحوّلا في النهاية إلى صورة واحدة: الجسد الفاسد.
هنا يذكّرنا جاهين بما يسميه الفلاسفة "المساواة الأنطولوجية أمام الموت"، حيث تسقط جميع الفوارق الاجتماعية، ويبقى مصير الجسد واحدًا.
٢. المحدودية الإنسانية وعبثية كامو
في النهاية، نحن محصورون في محدوديتنا الإنسانية، ومصيرنا الحتمي هو الفناء الجسدي. هذا الوعي هو ما جعل ألبير كامو الفيلسوف الفرنسي والأديب يتحدث عن "العبث" — التوتر بين توق الإنسان للمعنى وصمت الكون أمام هذا التوق.
المشهد الذي يرسمه جاهين هنا قريب من عالم كامو:
نحن نبني قبورًا فاخرة أو ندفن في حفر مهملة،
لكنّ النتيجة واحدة: "العفن نفسه"، وهو تجسيد شعري لما يسميه كامو "لا مبالاة الكون".
عند كامو، إدراك هذه الحقيقة لا يقود إلى الاستسلام، بل إلى التمرّد الوجودي: أن نعيش بصدق وحرية رغم عبثية المصير، وأن نخلق المعنى من داخل هذا الصمت.
٣. البعد النقدي–الاجتماعي
جاهين يستخدم المساواة البيولوجية أمام الموت لتفكيك أوهام السلطة والثروة.
إنه يقول ضمنيًا: إذا كان الموت يساوي بينكم، فلماذا لا تساوون أنفسكم في الحياة؟ هذا الموقف قريب من نقد الفلسفة الرواقية والفكر النقدي الحديث لفوارق الوجاهة الزائفة.
ثانيًا: القراءة اللاهوتية المسيحيّة
١. الموت في منظور الإيمان
يقرّ الإيمان المسيحيّ بحقيقة الفساد الجسدي كأثر للخطيئة الأصلية (روم 5: 12)، لكنه يرفض أن يكون الموت هو الكلمة الأخيرة. الموت، في المسيح، هو عبور لا نهاية: «أنا هو القيامة والحياة. من آمن بي ولو مات فسيحيا» (يو 11: 25).
٢. من المساواة في العفن إلى المساواة في المجد
يفرّق اللاهوت بين مساواةٍ جسدية أمام الفساد، ومساواة نهائية أمام عرش الله، حيث يُجازَى كل إنسان بحسب أعماله (متّى ١٦: ٢٧).
في مثل الغني ولعازر، نرى أن الموت يزيل الفوارق الخارجية، لكن الدينونة تكشف عدالة الله التي تعيد ترتيب الكرامة على أساس المحبة.
٣، القيامة انتصارٌ على محدوديتنا
في حين يرى كامو أن محدوديتنا لا تُلغى، يرى الإيمان المسيحيّ أن القيامة تمحو حدود الموت، وتحوّل "العفن" إلى جسدٍ ممجد (1 كور 15: 42–44).
لكن، حتى من منظور الإيمان، يظل تذكّر محدوديتنا دعوة للتواضع، وعيش العدالة والمحبّة قبل أن يسقط الجسد.
تصوّر الرباعية مشهدًا يلتقي فيه الوعي الفلسفي بالمحدودية مع رجاء الإيمان:
فلسفيًا، هي تذكير بأن الموت يساوي الجميع، وأن الحياة العادلة هي السبيل لمواجهة عبثية المصير.
لاهوتيًا، هي دعوة لأن نعيش المساواة والمحبة في الحاضر، لأن الله هو وحده من يحوّل المساواة في العفن إلى مساواة في المجد.
«إن كان الموت يجعلنا متساوين في التراب، فالمحبة هي التي تجعلنا متساوين في السماء» — القديس أغسطينوس.
#رباعيات_صلاح_جاهين_قراءة_فلسفية_لاهوتية