القمص يوحنا نصيف
 
 يُقَدِّمَ القدّيس كيرلّس الكبير عِدّة تعليقات جميلة على مَثَل الكرْم والكرّامين (لو20: 9-18)، أقتطف لحضراتكم بعضًا منها في هذا المقال:
 
يوضِّح المُرَنِّم مَن هو الذي غَرَسَ الكرم.. عندما يقول للمسيح مخلِّص الجميع عن الإسرائيليّين: "كرمةً نَقَلْتَ من مصر، طردتَ أممًا وغرستها، هيّأتَ طريقًا قدّامها، وغرستَ جذورها حتّى ملأتْ الأرض" (مز79: 8-9 سبعينيّة). وأيضًا يُعلِن النبيّ المبارك إشعياء نفس الشيء ويقول: "إنّ كَرم ربّ الجنود هو رجال يهوذا، غرس جديد ومحبوب" (إش5: 7س).
 فالذي غَرَسَ الكرم إذن هو الله، وهو نفسه الذي سافر بعيدًا لزمانٍ طويل.. هذا يُعني أنّه بعدما ظهر لهم في شكل نار، عند نزوله على جبل سيناء في أيّام موسى.. فإنّه لم ينعم عليهم مرّة أخرى بحضوره في صورة مرئيّة.. فعلاقته بهم كانت مِثل واحد قد سافر لزمانٍ طويل!
 
لكن من الواضح أنّه كان يعتني بكَرْمِهِ، وكان يُفَكِّر فيه باستمرار، لأنّه أرسل خُدّامًا أُمَناء في ثلاث أوقات مختلفة لكي يتسلّموا المحصول -أي الثمر- من الكرّامين؛ فلم تكُن هناك مُناسَبة في هذه الفترة لم يُرسِل الله في أثنائها أنبياء وصدّيقين ليُنذِروا بني إسرائيل، ويحثّوهم ليعطوا أثمارًا تُوَافِق الحياة المجيدة
اللائقة التي حسب الناموس، أمّا هم فكانوا أشرارًا وعصاة وعنيدين، وتَقَسّى قلبهم ضدّ التحذير، فلم يصغوا بأي طريقة للكلمة التي كان يمكن أن تنفعهم.
 أمّا ربّ الكرم فإنّه يتفكّر في نفسه ويقول: "ماذا أعمل؟".. كما يقول طبيب عن شخص مريض: ماذا أعمل؟ إنّه يقصد أنّه جرّب معه كلّ وسائل المهارة الطبيّة، ولكن بلا جدوى.
 
 ها هو لا يزال يتقدّم بطُرُق أخرى أعظم، فيقول: أُرسِل ابني الحبيب لعلّهم يهابونه.. أرسَلَ الابن بعد الخُدّام، ولكن ليس كواحِد محسوب ضمن الخُدّام، بل كابن حقيقي، ولذلك فهو الربّ. لأنّه حتّى وإن كان قد أخذ شكل العبد لأجل التدبير، إلاّ أنّه لا يزال إلهًا، والابن الحقيقي لله الآب، ويملك السلطان الطبيعي [أي الذي من طبيعته وليس كشيء أُضيف له].
 
 هل كرّموا حينئذ هذا الذي أُرسِلَ كابنٍ وربٍّ، وكَمَن يملك بالميراث كلّ ما لله الآب؟ هم لم يُكرِموه، لأنّهم ذبحوه خارج الكرم، بعد أن خطّطوا في أنفسهم هدفًا غبيًّا يدلّ على الجهل، ومملوءًا بكلّ خبث؛ لأنّهم قالوا: "هلمّوا نقتله لكي يصير لنا الميراث".
 
 الربّ هو بالحقيقة ابن ووارث لسلطان الله الآب بحقّ جوهره، فإنّه عندما صار إنسانًا دعا أولئك الذين آمنوا به إلى مشاركته في ملكوته. أمّا هؤلاء الناس فأرادوا أن يأخذوا المملكة لأنفسهم وحدهم، دون أن يسمحوا للابن بأيّ مشاركة معهم في الميراث، مغتصبين لأنفسهم وحدهم الميراث الربّاني. ولكن هدفهم هذا كان مملوءًا جهالةً ويستحيل تحقيقه. لذلك يقول داود المبارك عنهم في المزامير: "الساكن في السماء يضحك بهم، والربّ يستهزئ بهم" (مز2: 4 سبعينيّة). لذلك فإنّ رؤساء المجمع اليهودي قد طُرِحوا خارجًا بسبب مقاومتهم لمشيئة الربّ.
 
قد أعطى الكرْمَ إلى كرّامين آخَرين. مَن يكون هؤلاء الكرّامون؟ إنّني أُجيب أنّهم جماعة الرسل القدّيسين الكارزين بوصايا الإنجيل، وخُدّام العهد الجديد الذين هُم مُعَلِّمون للعبادة الروحيّة..
 
لا يُعنِي فقط الرسل القدّيسين، ولكن يقصد أيضًا الذين أتوا بعدهم، حتّى ولو لم يكونوا من نسل إسرائيل، وهذا ما يُعلِنه الله بوضوح، حيث يقول بفم إشعياء لكنيسة الأمم ولبقيّة إسرائيل: "ويأتي الغرباء في الجنس، ويرعون غنمكم. والغرباء في العشيرة سوف يكونون حرّاثين وكرّامين" (إش61: 5س).
لأنّه في الواقع قد دُعِيَ كثيرون من الأمم.. بل وإلى وقتنا هذا يوجَد رجال من جنس الأمم يَشغَلون أمكِنة عالية في الكنائس، وهُم يزرعون بذار التقوى في المسيح في قلوب المؤمنين، ويجعلون الأمم الذين يقومون برعايتهم مثل كروم جميلة في نظر الله.
 
 [عن تفسير إنجيل لوقا للقدّيس كيرلّس السكندري (عظة 134) - إصدار المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائيّة - ترجمة الدكتور نصحي عبد الشهيد]