فاطمة ناعوت
حضرتُ مؤخرًا مناقشة رسالة دكتوراة في كلية الإعلام بجامعة القاهرة موضوعها: "العوامل المؤثرة في خطاب كاتبات الرأي في الصحف المصرية اليومية"، وما جذبني فيها، ليس فقط أن جريدتي "المصري اليوم" من بين الصحف الثلاثة اللواتي خضعن للدراسة إضافة إلى جريدة "الأهرام" و"الوفد"، ولا لأنني كنتُ من بين الكاتبات اللواتي تناولتهن الرسالة الأكاديمية، بل كذلك لأن الباحثة د. “منى عبد الرحيم"، المدرس المساعد بكلية الإعلام، قد أفردت على طاولة التشريح مباضع البحث وسلطت مصباحها الكشفي على أوراق الصحافة المصرية؛ لا لتحلّل خطاب كاتبات الرأي فحسب، بل لتوثّق شيئًا من معاركهن اليومية مع مجتمعٍ لا يزال يرمق القلم الأنثوي بعين الريبة والدهشة.
وضعت الرسالة مجموعة مختارة من كاتبات الرأي تحت عدسة البحث العلمي لدراسة هموم المرأة الكاتبة التي تحرّك قلمها وسط طوفان الكتابة الذكورية؛ إن جاز أصلا تصنيف الكتابة بـ "نسوي" و "ذكوري". فأنا أؤمن بـ "وحدة العقل البشري"، بعيدًا عن "الجندرية" التمييزية، وإن اختلفت الهموم والأولويات حسب تجربة كل إنسان وظرفه الثقافي والمجتمعي.
في كلية الإعلام، جامعة القاهرة، كنا على موعد مع طرح جاد لقضية أظنها غابت عن كثير من الدوائر الأكاديمية: "كاتبات الرأي في الصحافة المصرية، وملامح خطابهن المهني والفكري”، عبر رسالة عنوانها: "التكوين المهني والأيديولوجي لكاتبات الرأي بالصحف المصرية، وعلاقته بخطابهن السياسي والاقتصادي والاجتماعي”. الرسالة تمثل إضافة جادة إلى حقل الدراسات الإعلامية، وتعيد كتابة المرأة في الصحافة إلى واجهة البحث العلمي، لا من زاوية النوع الاجتماعي، بل من باب التأثير الثقافي والإعلامي في حقل “صاحبة الجلالة”.
اعتمدت الباحثة منهجين متكاملين: تحليل الخطاب لعينة مقالات نُشرت عام ٢٠٢٣، إلى جانب مقابلات متعمقة مع ١٣ كاتبة رأي من الرعيل الأول والثاني؛ وهنّ، مع حفظ الألقاب: “أمينة النقاش"، “أمينة شفيق”، "فريدة الشوباشي"، "أمينة خيري"، "فتحية الدخاخني"، "ماجدة صالح"، "كريمة كمال"، "سناء السعيد"، "نادين عبد الله"، "نعمة عز الدين"، و"نيفين مسعد"، “آيات الحداد”، وكاتبة هذه السطور. وخَلُصَت الباحثة إلى أن كاتبات الرأي في مصر لسن مجرد حبرٍ أنيق فوق الورق الأبيض، ولا هنّ زهراتٍ بريّةً تُزين خلفية المشهد، بل في مداد أقلامهن نبضُ وطن وهموم إنسان، وألام الأرض، ووجع نساء يكتبن ليُسمِعن من به صمم.
المنهجية صارمة، لكنها أرخت الحبل للموضوعية، فجاءت الأرقامُ شاهدة: نصفُ ما كتبته الكاتبات كان في القضايا الاجتماعية، لأن قلوبهن معلقّةٌ بقضايا الناس. أما السياسة والاقتصاد، فتفاوت الاهتمام بهما حسب التوجه الأيديولوجي لكل كاتبة. ونالت “الكوتة النسائية” نصيبها من الجدل؛ بين من رآها تعويضًا مستحقًا، ومن اعتبرها ترفًا أو مجرد “فضفضة” مقنَّعة. وكشفت المقابلات الشخصية، تحولًا في اهتمام الكاتبات، نحو ملف الاقتصاد والتعليم، وتنامي الوعي بقضايا النزاعات الدولية.
الموجع المرّ كان شهادات الكاتبات عن الرقابة الذاتية، والخوف من نظرات المجتمع، ومحاولة التوازن بين الشجاعة والمراوغة. فكل مقالٍ هو معركة مصغّرة في ميدان الشرف. فالنساء إذا أمسكن القلم، لا يكتبن للترف بل للحق، لا للهوى بل للضمير.
من أجمل لحظات هذه الظهيرة العلمية الغنية، كان لقائي بأستاذتي الجميلة د. "سناء صليحة"، التي ناقشت الرسالة بموضوعية وحسم وأناقة. فمثل تلك اللحظات النادرة يسجلها الوجدان لا دفتر الحضور. هذه المبدعة والمترجمة والمثقفة الكبيرة، صاحبة الباع الطويل في الصحافة الثقافية والتحليل المجتمعي والسياسي، وتربّت على يديها أجيال من الصحفيين والمبدعين. استمعتُ إليها بشغفٍ وهي تحلل خطاب الكاتبات بدقة الناقد، لا بعفوية المراقب. تعلمنا منها، خلال المناقشة، كيف يُبنى الحكم العلمي على المقالة الصحفية، وكيف يمكن للجملة أن تكون حيادية شكلاً ومنحازة مضمونًا. وأما أ.د. "نجوى كامل"، أستاذ الصحافة بكلية الإعلام جامعة القاهرة، وإحدى رائدات البحث الإعلامي، فكانت حازمة في طرحها، دقيقة في ملاحظاتها، وذكّرتنا بأن الخطاب الصحفي مسؤولية مخيفة لا يجب التعامل معها باستخفاف، فالقلمُ بوسعه أن يقتل على نحو أشدّ أثرًا من النصل.
أما أ.د. "محرز حسين غالي"، أستاذ الصحافة بكلية الإعلام جامعة القاهرة، والمشرف على الرسالة، وصاحب عديد الكتب في الإعلام السياسي، فقد أعلنت الباحثة كم الرعاية التي أولاها الأستاذُ لرسالتها، خطوةً بخطوة، على مدى سنوات، ما بخل بعلمه ولا توجيهه، حتى أشرقت وخرجت للنور على هذا النحو من الثقل والصقل. وأدار النقاش بحكمة الأستاذ وتواضع العارف بقدر مُجاورتيْه على المنصّة، وحياد الراعي الذي أنبتَ زهرةً وحينما أشرقت، ترك الرأيَ فيها للناظرين.
وسط هذا الصخب الإعلامي، تظل مثل هذه الرسائل العلمية شموعًا صغيرة، تؤكد أن البحث العلمي قادرٌ على رصد نبض الحروف، وأن الصحافة ليست مهنة، بل حالة تماسّ اليومي مع الواقع، ومع الذات.
نقلا عن المصري اليوم