بقلم الأب يسطس الأورشليمى
في القطعة الخامسة من ثيؤطوكية الثلاثاء نقول: "لأن هذا هو الحجر الذي رآه دانيال قد قُطع من جبل لم تلمسه يد إنسان البتة هو الكلمة الذي من الآب، أتى وتجسد من العذراء بغير زرع بشر حتى خلصنا".
فقطع هذا الحجر من الجبل بدون يد إنسان كان رمزًا للسيدة العذراء التي أخذ منها السيد المسيح جسدًا بدون زرع بشر ولا معرفة رجل، فكما لم يلمس الجبل يد إنسان هكذا لم يقترب أي رجل من السيدة العذراء، فحبلها بالسيد المسيح كان بالروح القدس"، الجبل الذي اختاره الله لسكناه، الرب يسكن فيه إلى الأبد (مز 68: 16).
والكنيسة تردِّد في ثيؤطوكية الثلاثاء قائلةً: "لأن كلمة الله الحي الذي للآب نزل ليعطي الناموس على جبل سيناء، وعلي رأس الجبل بالدخان والظلام والضباب والعاصف، هو أيضًا نزل عليكِ أيتها الجبل الناطق بوداعة ومحبة بشرية، وهكذا أيضًا تجسد منكِ بغير تغيير بجسد ناطق"، ومن تسابيح الكنيسة اليونانية: "أيها المسيح، لقد انطلقتَ من العذراء. جئتَ من الجبل المظلَّل عليه، وأخذتَ جسدًا من تلك التي لم تعرف زيجة".
كما أن "الجبل المظلَّل عليه" قد يُشير إلى الجبل الذي رآه حبقوق النبي كما يقول لحن الكنيسة اليونانية: "الجبل المظلَّل عليه الذي سبق أن رآه حبقوق وتنبّأ قديمًا معلنًا أنه سكن (أو أقام) في محراب الهيكل. هناك أعطت (العذراء) زهور الفضيلة، وبظلها غطت أقاصي الأرض". إذ يقول حبقوق النبي: "الله جاء من تيمان، والقدوس من جبل فاران، جلاله غطّى السموات والأرض امتلأت من تسبيحه" (حب3: 3)، وهكذا يصف اقتراب الله من البشر بظهور سحابة العاصف، وكان ذلك امتدادًا لجبل سيناء الذي ظللت عليه سحابة دخان النار الإلهية؛ حيث كان الله حاضرًا ولكنه كان مخفيًا نفسه في عنصر سري رهيب هو العاصفة.
ومن بين الإشارات إلى والدة الإله: "الجبل غير المنهدم" و"الجبل غير الدنس"، وهما لقبان يشيران إلى البتولية الدائمة للعذراء مريم، ونرى ذلك بصفة خاصة في حلم نبوخذ نصر الذي فسره له دانيال النبي، فقد حلم ملك بابل بتمثال عظيم رأسه من ذهب، وصدره وذراعاه من فضة، وبطنه وفخذاه من نحاس، وساقاه من حديد، وقدماه بعضهما من حديد والبعض من خزف (دا 2: 31- 33)، وإذ كان الملك يتأمل في هذه الرؤية المرعبة يقول الكتاب: "قُطع حجر (من الجبل حسب السبعينية)، بغير يدين فضرب التمثال فانسحق وصار كعصافة البيدر في الصيف، فحملتها الريح فلم يوجد لها مكان (أو أثر). أما الحجر الذي ضرب التمثال فصار جبلاً كبيرًا وملأ الأرض كلها" (دا 2: 35).
وقد فسر دانيال الحلم للملك قائلاً إن أجزاء التمثال المختلفة المصنوعة من مواد مختلفة، هي ممالك ستخلف بعضها البعض، ابتداءً من مملكة بابل ونبوخذ نصر ذاته، ثم قال إن الحجر الذي حطّم الممالك الأخرى التي يمثلها التمثال إنما هو من أصل إلهي: "يُقيم إله السموات مملكة لن تنقرض أبدًا، ومُلكها لا يُترَك لشعب آخر، وتسحق وتفنى كل هذه الممالك وهي تثبت إلى الأبد، لأنك رأيتَ أنه قد قُطع حجر من جبل لا بيدين، فسحق الحديد والنحاس والخزف والفضة والذهب" (دا 2: 44و45)، والرب يسوع يبني أيضًا على تلك الإشارات من العهد القديم، فيُعرِّف نفسه بأنه "الحجر الذي رفضه البنّاؤون هو قد صار رأس الزاوية، من قبل الرب كان هذا وهو عجيب في أعيننا، لذلك أقول لكم إن ملكوت الله يُنزَع منكم ويُعطَى لأمّة تعمل أثماره، ومن سقط على هذا الحجر يترضض ومن سقط هو عليه يسحقه" (مت21: 42-44)، والرب يردِّد هنا كلام المزمور (مز118: 22-23)، وهو ما تنبّأ عنه إشعياء النبي: "هانذا أؤسس في صهيون حجرًا، حجر امتحان، حجر زاوية كريمًا أساسًا مؤسّسًا، من آمن لا يهرب (لن يخزى حسب السبعينية)" (إش28: 16).
ولذلك، فإن الآباء، مثل يوستينوس الشهيد و إيريناؤس أسقف ليون، يعتبرون أن المسيح هو الحجر الذي رآه ملك بابل في الحلم، فإن ولادة المسيح من عذراء لها مكانة مرموقة في كتاب القديس. يوستينوس "حوار مع تريفو"، وهو يستعمل حجر ذلك الحلم ليدعِّم به براهينه بخصوص هذا الميلاد البتولي، فيقول: "كون الحجر قُطع بدون يد بشرية يُظهر أن هذا ليس عمل إنسان، بل إنه عمل مشيئة الآب إله الكل الذي أوجده"، ويتضح من حوار تريفو اليهودي مع هذا القديس أن تريفو أشار في عدة مناسبات إلى أن هذا الحجر يشير غالبًا إلى المسيح.
أما القديس إيريناؤس فيقول: "المسيح هو الحجر الذي قُطع من الجبل بدون يدين، والذي يسحق الممالك الوقتية، ويأتي بالمملكة الأبدية (أي الملكوت الذي يدوم إلى الأبد)، التي هي قيامة الأبرار، لأنه مكتوبٌ: "يُقيم إله السموات مملكة لن تنقرض أبدًا" (دا 2: 44).
والقديس. إيريناؤس هو الذي رأى وجود علاقة بين الجبل الذي قُطع منه الحجر والعذراء مريم، وذلك في شرحه لمغزى هذا التعبير: "بدون يد بشرية". فيقول: "مجيء المسيح إلى العالم لم يكن بفعل أيادي بشرية، أي من الذين اعتادوا على قطع الأحجار، أي أن يوسف النجار لم يكن له نصيب في هذا العمل، ولكن للقديسة مريم وحدها مشتركةً مع الخطة الإلهية المدبَّرة مسبقًا، لأن ذلك الحجر الذي من الأرض حصل على وجوده من كلٍّ من قوة الله وحكمته".
ويؤكّد أوريجانوس على بتولية العذراء مما قاله دانيال النبي، فيقول: "لم يُبنَ هيكل جسد الرب بيد بشر في بطن السيدة العذراء، ولكن كما تنبّأ دانيال، فإن الحجر قُطع بغير يدين وصار جبلاً كبيرًا، وهكذا أُخذ وقطع هيكل الجسد من جبل الطبيعة البشرية وجوهر الجسد بغير يدين، أي بدون عمل البشر".
ويرى القديس. أوغسطينوس في إشارة هذا الحجر إلى المسيح تطبيقًا روحيًا مجازيًا على الحجر الذي صار جبلاً، فيقول: "إذ يكبر الحجر ويملأ الكون، فإن الجبل ذاته يأتي إلينا. فلماذا نبحث عن هذا الجبل وكأنه لم يوجد، ولا نتسلقه في وقتنا الحاضر حتى يكون فينا الرب العظيم والمستحق لكل تسبيح".
كما أن الكنيسة تردِّد في الهوس الكيهكي ما جاء في المزامير قائلةً: "جبل الله الجبل الدسم، الجبل المتجمد الجبل الدسم، ما بالكم تظنون جبالاً مجبّنةً، الجبل الذي سُرّ الله أن يسكن فيه، فإن الرب يسكن فيه إلى الانقضاء"، وهو مأخوذ من المزمور: "جبل الله جبل باشان، جبل أسنمة جبل باشان، لماذا أيتها الجبال المسنّمة ترصدن الجبل الذي اشتهاه الله لسكنه، بل الرب يسكن فيه إلى الأبد" (مز67: 15و16)، وهذا هو تفسر ثئوطوكية الثلاثاء رؤيا دانيال هكذا "لأن هذا هو الحجر الذي رآه دانيال قد قطع من جبل، ولم تلمسه يد إنسان البتة، هو الكلمة الذي من الآب، أتى وتجسد من العذراء بغير زرع بشر حتى خلصنا ( القطعة الخامسة )".